قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } . يخاطب اليهود .
قوله تعالى : { آمنوا بما نزلنا } يعني : القرآن .
قوله تعالى : { مصدقاً لما معكم } . يعني : التوراة ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود ، عبد الله بن صوريا ، وكعب بن الأشرف فقال : يا معشر اليهود : " اتقوا الله وأسلموا ، والله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق " قالوا : ما نعرف ذلك ، وأصروا على الكفر فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { من قبل أن نطمس وجوهاً } ، قال ابن عباس : نجعلها كخف البعير ، وقال قتادة والضحاك : نعميها ، والمراد بالوجه العين .
قوله تعالى : { فنردها على أدبارها } . أي : نطمس الوجوه ، فنردها على القفا ، وقيل : نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم ، وقيل معناه : نمحو آثارها وما فيها من أنف ، وعين ، وفم ، وحاجب ، ونجعلها كالأقفاء . وقيل : نجعل عينيه على القفا فيمشي القهقري .
روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ، ويده على وجهه ، وأسلم ، قال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي ، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه ، فقال : يا رب آمنت ، يا رب أسلمت ، مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية .
فإن قيل : قد أوعدهم بالطمس إن لم يؤمنوا ، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟ قيل : هذا الوعيد باق ، ويكون طمس ومسخ في اليهودية قبل قيام الساعة ، وقيل : هذا كان وعيداً بشرط ، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه دفع ذلك عن الباقين ، وقيل : أراد به القيامة ، وقال مجاهد : أراد بقوله : { نطمس وجوهاً } أي : نتركهم في الضلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب ، والرد عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة . وأصل الطمس : المحو ، والإفساد ، والتحويل ، وقال ابن زيد : نمحو آثارهم من وجوههم ونواصيهم ، التي هم بها فنردها على أدبارها ، حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه ، وهو الشام . وقال : قد مضى ذلك ، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام .
قوله تعالى : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } . فنجعلهم قردة وخنازير .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }
يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم ، المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها ، فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر .
وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا ، ويوافق بعضها بعضًا . فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا يمكن صدقها .
وفي قوله : { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم ، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم ، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } وهذا جزاء من جنس ما عملوا ، كما تركوا الحق ، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق ، فجعلوا الباطل حقا والحق باطلا ، جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق ، وردها على أدبارها ، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } بأن يطردهم من رحمته ، ويعاقبهم بجعلهم قردة ، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } كقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
{ يَا أَيّهَآ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَىَ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّآ أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } : اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله لهم : يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به ، { آمِنُوا } يقول : صدّقوا بما أنزلنا إلى محمد من الفرقان ، { مُصَدّقا لما مَعَكُمْ } يعني : محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران ، { مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : طمسه إياه : محوه آثارها حتى تصير كالأقفاء . وقال آخرون : معنى ذلك : أن نطمس أبصارها فنصيرها عمياء ، ولكن الخبر خرج بذكر الوجه ، والمراد به بصره . { فَنُردّها على أدْبَارِهَا } : فنجعل أبصارها من قبل أقفائها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا } . . . إلى قوله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها } وطمسها أن تعمى فنردّها على أدبارها ، يقول : أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقري ونجعل لأحدهم عينين في قفاه .
حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبديّ ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } قال : نجعلها في أقفائها فتمشي على أعقابها القهقرى .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية بنحوه ، إلا أنه قال : طمسها أن يردّها على أقفائها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها } قال : نحوّل وجوهها قبل ظهورها .
وقال آخرون : معنى ذلك من قبل أن نعمي قوما عن الحقّ ، فنردّها على أدبارها في الضلالة والكفر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } : فنردّها عن الصراط الحقّ ، { فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها } قال : في الضلالة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { أنْ نَطْمِسَ وُجُوها } عن صراط الحقّ ، { فَنَرُدّها عَلى أدْبارِهَا } في الضلالة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال الحسن : { نَطْمِسَ وُجُوها } يقول : نطمسها عن الحقّ ، { فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها } : على ضلالتها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } . . . إلى قوله : { كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ } قال : نزلت في مالك بن الصيّف ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع . أما { أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } يقول : فنعميها عن الحقّ ، ونرجعها كفارا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } يعني : أن نردّهم عن الهدى والبصيرة ، فقد ردّهم على أدبارهم فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به .
وقال آخرون : معنى ذلك : من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها وناحيتهم التي هم بها ، فنردّها على أدبارها من حيث جاءوا منه بدءا من الشام . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } قال : كان أبي يقول : إلى الشام .
وقال آخرون : معنى ذلك : من قبل أن نطمس وجوها فنمحو آثارها ونسوّيها ، فنردّها على أدبارها بأن نجعل الوجوه منابت الشعر ، كما وجوه القردة منابت للشعر ، لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم ، فقالوا : إذا أنبت الشعر في وجوههم ، فقد ردّها على أدبارها بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى قوله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها } : من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء ، فنردّها على أدبارها ، فنجعل أبصارها في أدبارها ، يعني بذلك : فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه ، فيكون معناه : فنحوّل الوجوه أقفاء ، والأقفاء وجوها ، فيمشون القهقري ، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه خاطب بهذه الاَية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله : { ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ } ثم حذّرهم جلّ ثناؤه بقوله : { يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } . . . الاَية ، بأَسه وسطوَتَه ، وتعجيل عقابه لهم إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به ، ولا شكّ أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا . وإذ كان ذلك كذلك ، فبّين فساد قول من قال : تأويل ذلك أن نعميها عن الحقّ فنردّها في الضلالة ، فما وجه ردّ من هو في الضلالة فيها ؟ وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه ، فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال : يردّه فيه . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان صحيحا أن الله قد تهدّد الذين ذكرهم في هذه الاَية بردّه وجوههم على أدبارهم ، كان بينا فساد تأويل من قال : معنى ذلك يهدّدهم بردّهم في ضلالتهم .
وأما الذين قالوا : معنى ذلك : من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كهيئة وجوه القردة ، فقول لقول أهل التأويل مخالف ، وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين على خطئه شاهدا .
وأما قول من قال : معناه : من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها فنردّهم إلى الشام من مساكنهم بالحجاز ونجد ، فإنه وإن كان قولاً له وجهٌ كما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد ، وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب التي هي خلاف الأقفاء ، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدلّ على أنه معنيّ به غير ذلك من الوجوه التي ذكرت دليل يجب التسليم له . وأما الطمس : فهو العفو والدثور في استواء¹ ومنه يقال : طمست أعلام الطريق تَطْمِسُ طُمُوسا ، إذا دثرت وتعفت فاندفنت واستوت بالأرض ، كما قال كعب بن زهير :
منْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرقَتْ ***عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ
يعني بطامس الأعلام : داثر الأعلام مندفنها . ومن ذلك قيل للأعمى الذي قد تعفيّ غَرّ ما بين جفني عينيه فدثر : أعمى مطموس وطميس ، كما قال الله جلّ ثناؤه : { وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنهِمْ } .
قال أبو جعفر : الغَرّ : الشقّ الذي بين الجفنين .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الاَية ، فهل كان ما توعدهم به ؟ قيل : لم يكن لأنه آمن منهم جماعة ، منهم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومخيرق ، وجماعة غيرهم ، فدفع عنهم بإيمانهم .
ومما يبين عن أن هذه الاَية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم ، ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة جميعا ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود ، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد ، فقال لهم : «يا مَعْشَرَ يهود اتّقُوا الله وأسْلِمُوا ! فوالله إنكم لَتَعْلَمُونَ أنّ الّذي جِئْتُكُمْ به لحقّ » فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا ، وأصرّوا على الكفر ، فأنزل الله فيهم : { يا أيّها الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } . . . الاَية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة ، قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب في زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمرّ على المدينة ، فخرج إليه عمر ، فقال : يا كعب أسلم ! قال : ألستم تقرءون في كتابكم : { مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلوها كمَثَل الحمارِ يَحْمِلُ أسْفارا } ؟ وأنا قد حملت التوراة . قال : فتركه ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، قال : فسمع رجلاً من أهلها حزينا ، وهو يقول : { يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } . . . الاَية ، فقال كعب : يا ربّ أسلمت ! مخافة أن تصيبه الاَية ، ثم رجع فأتى أهله باليمن ، ثم جاء بهم مسلمين .
القول في تأويل قوله تعالى : { أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { أوْ نَلْعَنَهُمْ } : أو نلعنكم ، فنخزيكم ، ونجعلكم قردة ، { كما لَعَنّا أصْحَابَ السّبْتِ } يقول : كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم ، قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله : { آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ } كما قال : { حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بِريحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُوا بها } . وقد يحتمل أن يكون معناه : من قبل أن نطمس وجوها فنردّها على أدبارها أو نلعن أصحاب الوجوه ، فجعل الهاء والميم في قوله : { أوْ نَلْعَنَهُمْ } من ذكر أصحاب الوجوه ، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } . . . إلى قوله : { أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ } أي نحوّلهم قردة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن : { أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ } يقول : أو نجعلهم قردة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ } إو نجعلهم قردة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ } قال : هم يهود جميعا ، نلعن هؤلاء كما لعنا الذين لعنا منهم من أصحاب السبت .
وأما قوله : { وكانَ أمْر الله مَفْعُولاً } فإنه يعني : وكان جميع ما أمر الله أن يكون كائنا مخلوقا موجودا ، لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خلقه . والأمر في هذا الموضع : المأمور ، سمي أمر الله لأنه عن أمره كان وبأمره ، والمعنى : وكان ما أمر الله مفعولاً .
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها ، يعني الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا ، أو في الآخرة . وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير ، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوها فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار ، أو نردها إلى حيث جاءت منه ، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير ، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء ، أو من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة . { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت ، أو نمسخهم مسخا مثل مسخهم ، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود . والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الالتفات ، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء ، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم وقد آمن منهم طائفة . { وكان أمر الله } بإيقاع شيء أو وعيده ، أو ما حكم به وقضاه . { مفعولا } نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا .
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل ، وتبصّرها في الحق ، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة ( 11 ) إذ قال : « فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت ، وفَاتَ قولُ لَيْت ، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة ، متَأبِّطاً لِهِرَاوة ، فقال : لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون » الخ ، لذلك جيء بقوله : { يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقاً لما معكم } الآية عقب ما تقدّم .
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } [ آل عمران : 23 ] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شُرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيباً منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يُؤتَوْه .
وجيء بالصلتين في قوله : { بما نزلنا } وقوله : « بما معكم » دون الإسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : { بما نزلنا } من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله : { لما معكم } من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه ، على حدّ قوله : { كمثَل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] .
وقوله : { من قبل أن نطمس وجوهاً } تهديد أو وعيد ، ومعنى : { من قبل أن نطمس } أي آمنِوا في زمن يبتدىء من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيَّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازاً على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ .
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به ، وفي الحديث " أمَا يخشَى الذي يرفع رأسه قبلَ الإمام أن يَجعل الله وجهه وجه حمار " . وأصْل الطمس إزالة الآثار الماثلة . قال كعب :
عُرْضَتُها طَامِسُ الأعلام مَجْهُولُ
وقد يطلق الطمس مجازاً على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه .
ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها .
وقوله : { فنردّها على أدبارها } عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب ؛ أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمسُ والردّ على الأدبار ، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء ، وإن كان الطمس هنا مجازاً وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجرُ أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيّد جهته في عصر الهجرة .
والردّ على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازاً بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا ، أي إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام .
والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبّب معاً ، والكلام وعيد ، والوعيدُ حاصل ، فقد رماهم الله بالذلّ ، ثم أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات .
وقوله : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مراداً به المسخ فاللعن مراد به الذلّ ، وإن كان الطمس مراداً به الذلّ فاللعن مراد به المسخ .
و { أصحاب السبت } هم الذين في قوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقد تقدّم في سورة البقرة .