قوله تعالى : { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم } ، اللام ، لام القسم تقديره : والله ليجمعنكم في الموت وفي القبور .
قوله تعالى : { إلى يوم القيامة } . وسميت القيامة قيامةً لأن الناس يقومون من قبورهم ، قال الله تعالى : { يوم يخرجون من الأجداث سراعاً } [ المعارج :43 ] وقيل : لقيامهم إلى الحساب ، قال الله تعالى : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } . [ المطففين :6 ] قوله تعالى : { ومن أصدق من الله حديثاً } أي : قولاً ووعداً ، وقرأ حمزة والكسائي { أصدق } ، وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاي .
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا }
يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو ، لكماله في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير ، والنعم الظاهرة والباطنة .
وذلك يستلزم الأمر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية . لكونه المستحق لذلك وحده والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه منها ، ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة ، فقال : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } أي : أولكم وآخِركم في مقام واحد .
في { يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك ولا شبهة بوجه من الوجوه ، بالدليل العقلي والدليل السمعي ، فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها ، ومن وجود النشأة الأولى التي وقوع الثانية أَوْلى منها بالإمكان ، ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبثًا ، يحيون ثم يموتون . وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك ، بل إقسامه عليه ولهذا قال : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } كذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن ، كقوله تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
وفي قوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } إخبار بأن حديثه وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق ، بل أعلاها . فكل ما قيل في العقائد [ والعلوم ]{[218]} والأعمال مما يناقض ما أخبر الله به ، فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين ، فلا يمكن أن يكون حقًّا .
{ اللّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ } المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له هو ، الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل طائع . وقوله : { لَيَجَمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ } يقول : ليبعثنكم من بعد مماتكم ، وليحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم ، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته وأهل الإيمان به والكفر . { لا رَيْبَ فِيهِ } يقول : لا شكّ في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري : أنّي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم . { وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثا } يعني بذلك : واعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر ، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينا ، فلا تشكوا في صحته ، ولا تمتروا في حقيته ، فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه ، ووعدى الصدق الذي لا خلف له . { وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثا } يقول : وأيّ ناطق أصدق من الله حديثا ؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعا أو يدفع به عنها ضرّا ، والله تعالى ذكره خالق الضرّ والنفع ، فغير جائز أن يكون منه كذب ، لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه ، أو دفع ضرّ عنها سواه تعالى ذكره ، فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرا ، ومن أصدق من الله حديثا وخبرا .
{ الله لا إله إلا هو } مبتدأ وخبر ، أو { الله } مبتدأ والخبر { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } أي الله ، والله ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة ، أو مفضين إليه أو في يوم القيامة ، ولا إله إلا هو ، اعتراض . والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة وهي قيام الناس من القبور أو للحساب . { لا ريب فيه } في اليوم أو في الجمع فهو حال من اليوم ، أو صفة للمصدر { ومن أصدق من الله حديثا } إنكار أن يكون أحد أكثر صدقا منه ، فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص وهو على الله محال .
لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى { إن الله كان على كل شيء حسيباً } [ النساء : 86 ] تلاه مقوياً له الإعلام بصفة الربوبية ، وحال الوحدانية ، والإعلام بالحشر ، والبعث من القبور ، للثواب ، والعقاب ، إعلاماً بقسم ، والمقسم به تقديره وهو : أو وحقه ، أو وعظمته ، { ليجمعنكم } والجمع هنا بمعنى الحشر ، فلذلك حسنت بعده { إلى } أي : إليه السوق والحشر ، و { القيامة } : أصلها القيام ، ولما كان قيام الحشر من أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة{[4179]} .
و{ لا ريب فيه } تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب الخبر ، ومعناه : لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره ، وإن ارتاب فيه الكفرة فغير ضائر ، { ومن أصدق من الله حديثاً } ؟ ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر ، تقديره : لا أحد أصدق من الله تعالى ، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف والرجاء ، أو سوء السجية ، وهذه منفية في حق الله تعالى وتقدست أسماؤه ، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقاً لما في قلبه ، وللأمر المخبر عنه في وجوده ، و { حديثاً } نصب على التمييز .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة}، نزلت في قوم شكوا في البعث، فأقسم الله عز وجل بنفسه ليبعثهم إلى يوم القيامة، {لا ريب فيه}: لا شك في البعث.
{ومن أصدق من الله حديثا}، يقول: فلا أحد أصدق من الله حديثا إذا حدث، يعني في أمر البعث...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ} المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له هو، الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل طائع.
{لَيَجَمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ}: ليبعثنكم من بعد مماتكم، وليحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته وأهل الإيمان به والكفر. {لا رَيْبَ فِيهِ}: لا شكّ في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أنّي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم.
{وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثا}: واعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينا، فلا تشكوا في صحته، ولا تمتروا في حقيته، فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خلف له. {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثا}: وأيّ ناطق أصدق من الله حديثا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعا أو يدفع به عنها ضرّا، والله تعالى ذكره خالق الضرّ والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب، لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه، أو دفع ضرّ عنها سواه تعالى ذكره، فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرا، ومن أصدق من الله حديثا وخبرا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وسمّيت القيامة قيامة، لأن الناس يقومون من قبورهم. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً} [المعارج: 43] وقيل: سميت قيامة لقيامهم إلى الحساب. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى {إن الله كان على كل شيء حسيباً} [النساء: 86] تلاه مقوياً له الإعلام بصفة الربوبية، وحال الوحدانية، والإعلام بالحشر، والبعث من القبور، للثواب، والعقاب، إعلاماً بقسم، والمقسم به تقديره وهو: أو وحقه، أو وعظمته، {ليجمعنكم} والجمع هنا بمعنى الحشر، فلذلك حسنت بعده {إلى} أي: إليه السوق والحشر، و {القيامة}: أصلها القيام، ولما كان قيام الحشر من أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة...
و {لا ريب فيه} تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب الخبر، ومعناه: لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره، وإن ارتاب فيه الكفرة فغير ضائر، {ومن أصدق من الله حديثاً}؟ ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر، تقديره: لا أحد أصدق من الله تعالى، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف والرجاء، أو سوء السجية، وهذه منفية في حق الله تعالى وتقدست أسماؤه، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقاً لما في قلبه، وللأمر المخبر عنه في وجوده، و {حديثاً} نصب على التمييز...
الأول: أنا بينا أن المقصود من قوله: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله: {إن الله كان على كل شيء حسيبا} ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان، فقوله: {لا إله إلا هو} إشارة إلى التوحيد، وقوله: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} إشارة إلى العدل، وهو كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} وكقوله في طه: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وهو إشارة إلى التوحيد ثم قال: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} وهو إشارة إلى العدل، فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة فينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا شك أنه تهديد شديد.
الثاني: كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر، فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة...
لقائل أن يقول: لم لم يقل: ليجمعنكم في يوم القيامة؟ والجواب من وجهين: الأول: المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة. الثاني: التقدير: ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل ذلك بقوله دالاً على تلازم التوحيد والعدل: {الله} أي الذي لا مثل له {لا إله إلا هو} أي وقد أمركم بالعدل في الشفاعة والسلام، فإن لم تفعلوه -لما لكم من النقائص التي منها عدم الوحدانية- فهو فاعله ولا بد، فاحذروه لأنه واحد، فلا معارض له في شيء من الحساب ولا غيره، ولا يخفى عليه شيء فالحكم على البواطن إنما هو له تعالى، وأما أنتم فلم تكلفوا إلا بالظاهر.
ولما تبين أنه لا معارض له أنتج قوله مبيناَ لوقت الحساب الأعظم: {ليجمعنكم} وأكده باللام والنون دلالة على تقدير القسم لإنكار المنكرين له، ولما كان التدريج بالإماتة شيئاً فشيئاً، عبر بحرف الغاية فقال: {إلى يوم القيامة} والهاء للمبالغة، ثم آكده بقوله: {لا ريب فيه} أي فيفصل بينكم وبين من أخبركم بهم من المنافقين ونقد أحوالهم وبين محالهم، فيجازي كلاً بما يستحق.
ولما كان التقدير: فمن أعظم من الله قدرة! عطف عليه قوله: {ومن أصدق من الله} أي الذي له الكمال كله فلا شوب نقص يلحقه {حديثاً} وهو قد وعد بذلك لأنه عين الحكمة، وأقسم عليه، فلا بد من وقوعه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء في الدار الآخرة هما الركنان الأولان للدين وإنما الرسل يبلغون الناس ما يجب من إقامتهما ودعمهما بالأعمال الصالحة، فلا غرو أن يصرح القرآن بهما معا تارة وبالأول منهما تارة أخرى في أثناء سرد الأحكام فإن ذكرهما هو العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بتلك الأحكام، وناهيك بأحكام القتال التي يبذل المؤمن فيها نفسه وماله للدفاع عن الحق والحقيقة وحرية الدين الإلهي ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله، وهل يبذل العاقل نفسه إلا في مرضاة من يجزيه على ذلك ما هو أفضل من هذه الحياة الدنيا وكل ما فيها...
فالمعنى: الله لا إله إلا هو لا يعبد غيره فلا تقصروا في طاعته والخضوع لأمره فإن في طاعته شرفكم وسعادتكم، وارتقاء أرواحكم وعقولكم، إذ حرركم بذلك من الرق والعبودية والخضوع لأمثالكم من البشر، بَلهَ الخضوع والذل لما دون البشر من المعبودات التي ذل لها المشركون، وسيجعل لكم بهذا الدين ملكا عظيما ويجعلكم الوارثين، وهل هذا كل ما عنده من الجزاء للمحسنين؟ كلا إنه والله ليجمعنكم ويحشرنكم إلى يوم القيامة، لا ريب في ذلك اليوم ولا فيما يكون فيه من الجزاء الأوفى على الأعمال، فقد أكد الله تعالى خبره بالقسم وهو أقوى المؤكدات: {ومن أصدق من الله حديثا} أي لا أحد أصدق منه عز وجل فيرجح خبره على خبره. فكلام غيره يحتمل الصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن جهل أو سهو، وأما كلامه تعالى فهو عن العلم المحيط بكل شيء {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه:52] فلا يحتمل أن يكون خبره غير صادق لنقص في العلم، كما لا يجوز أن يكون كذلك لغرض أو حاجة لأنه تعالى غني عن العالمين، وقد دل إعجاز القرآن على كونه كلام الله تعالى فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل، إذا آثر على قوله تعالى أقوال المخلوقين، كما هو دأب المقلدين الضالين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} إخبار بأن حديثه وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق، بل أعلاها. فكل ما قيل في العقائد [والعلوم] والأعمال مما يناقض ما أخبر الله به، فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقًّا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"يبدأ هذا الدرس بقاعدة التصور الإسلامي الأساسية.. التوحيد وإفراد الله -سبحانه- بالألوهية؛ ثم يبني على هذه القاعدة أحكاما شتى في معاملة المجتمع المسلم مع المعسكرات المختلفة؛ بعد التنديد بانقسام الصف المسلم إن أوربا بقانونها الدولي -وكل ما تفرع عنه من المنظمات الدولية- لم تبدأ في هذا الاتجاه إلا في القرن السابع عشر الميلادي [الحادي عشر الهجري]. ولم يزل هذا القانون -في جملته- حبرا على ورق؛ ولم تزل هذه المنظمات -في جملتها- أدوات تختفي وراءها الأطماع الدولية؛ ومنابر للحرب الباردة! وليست أداة لإحقاق حق؛ ولا لتحقيق عدل! وقد دعت إليها منازعات بين دول متكافئة القوى. ولكن كلما اختل هذا التكافؤ لم يعد للقوانين الدولية قيمة، ولا للمنظمات الدولية عمل ذو قيمة! أما الإسلام -المنهج الرباني للبشر- فقد وضع أسس المعاملات الدولية في القرن السابع الميلادي [الأول الهجري]. ووضعها من عند نفسه؛ دون أن تضطره إلى ذلك ملابسات القوى المتكافئة. فهو كان يضعها ليستخدمها هو، وليقيم المجتمع المسلم علاقاته مع المعسكرات الأخرى على أساسها. ليرفع للبشرية راية العدالة، وليقيم لها معالم الطريق. ولو كانت المعسكرات الأخرى -الجاهلية- لا تعامل المجتمع المسلم بتلك المبادى ء من جانبها.. فلقد كان الإسلام ينشى ء هذه المبادى ء إنشاء وللمرة الأولى.. وهذه القواعد للمعاملات الدولية متفرقة في مواضعها ومناسباتها من سور القرآن، وهي تؤلف في مجموعها قانونا كامل للتعامل الدولي. يضم حكما لكل حالة من الحالات التي تعرض بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى:محاربة. ومهادنة. ومحالفة. ومحايدة. ومرتبطة مع محارب، أو مهادن، أو محالف، أو محايد.. الخ.. وليس بنا هنا أن نستعرض هذه المبادئ والأحكام [فهي جديرة ببحث مستقل يتولاه متخصص في القانون الدولي]. ولكننا نستعرض ما جاء في هذه المجموعة من الآيات في هذا الدرس.. وهي تتعلق بالتعامل مع الطوائف التالية:""أ" "المنافقين غير المقيمين في المدينة. ""ب"" الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.. ""ج"" المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين أو حرب قومهم كذلك. وهم على دينهم. ""د"" المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة ويظهرون الكفر إذا عادوا إلى مكة. ""ه"" حالات القتل الخطأ بين المسلمين والقتل العمد على اختلاف المواطن والأقوام.. وسنجد أحكاما صريحة واضحة في جميع هذه الحالات؛ التي تكون جانبا من مبادىء التعامل في المحيط الدولي. شأنها شأن بقية الأحكام، التي تتناول شتى العلاقات الأخرى. ونبدأ من حيث بدأ السياق القرآني بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها بناء الإسلام كله. وبناء النظام الإسلامي في شتى جوانبه: (الله لا إله إلا هو، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. ومن أصدق من الله حديثا؟) إنه من توحيد الله -سبحانه- وإفراده بالألوهية تبدأ خطوات المنهج الرباني -سواء في تربية النفوس أم في إقامة المجتمع، ووضع شرائعه وتنظيمه؛ وسواء كانت هذه الشرائع متعلقة بالنظام الداخلي للمجتمع المسلم، أم بالنظام الدولي، الذي يتعامل هذا المجتمع على أساسه مع المجتمعات الأخرى. ومن ثم نجد هذا الافتتاح لمجموعة الآيات المتضمنة لطائفة من قواعد التعامل الخارجية والداخلية أيضا. كذلك من الاعتقاد في الآخرة، وجمع الله الواحد لعباده، ليحاسبهم هناك على ما أتاح لهم في الدنيا من فرص العمل والابتلاء، تبدأ خطوات هذا المنهج في تربية النفوس، وإثارة الحساسية فيها تجاه التشريعات والتوجيهات؛ وتجاه كل حركة من حركاتها في الحياة.. فهو الابتلاء في الصغيرة والكبيرة في الدنيا؛ والحساب على الصغيرة والكبيرة في الآخرة.. وهذا هو الضمان الأوثق لنفاذ الشرائع والأنظمة؛ لأنه كامن هناك في أعماق النفس، حارس عليها، سهران حيث يغفو الرقباء ويغفل السلطان! هذا حديث الله- سبحانه -وهذا وعده: ومن أصدق من الله حديثًا.."
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي، جمع تمجيد الله، وتهديداً، وتحذيراً من مخالف أمره، وتقريراً للإيمان بيوم البعث، وردّاً لإشراك بعض المنافقين وإنكارهم البعث. فاسم الجلالة مبتدأ. وجملة {لا إله إلا هو} معترضة بين المبتدأ وخبره لتمجيد الله. وجملة {ليجمعنكم} جواب قسم محذوف واقع جميعه موقع الخبر عن اسم الجلالة. وأكّد هذا الخبر: بلام القسم، ونون التوكيد، وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، لتقوية تحقيق هذا الخبر. إبطالاً لأنكار الذين أنكروا البعث. ومعنى {لا ريب فيه} نفي أن يتطرّقه جنس الريب والشكّ أي في مَجيئه، والمقصود لا ريب حقيقياً فيه، أو أنّ ارتياب المرتابين لوهنه نُزّل منزلة الجنس المعدوم. والاستفهام عن أن يكون أحد أصدق من الله هو استفهام إنكاري. و« حديثاً» تمييز لنسبة فعل التفضيل...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ثم انطلقت الآية الثانية لتملأ وجدان الإنسان وضميره بعظمة الله، كأسلوب من أساليب تربية الشخصية الإيمانية على الشعور الدائم بحضور الله في داخل النفس، بالمستوى الذي يتلاشى فيه كل حضور آخر لأي شيء آخر معه، في اتجاه حركة المسؤولية في وعي الإنسان لذاته ولدوره {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فهو وحده الإله، وكل ما هناك ومن هناك خاضع لألوهيته، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فانظروا كيف تواجهون الموقف، في لحظات الحساب الحاسمة على أعمالكم، واعرفوا كيف تجادلون عن أنفسكم {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل: 111]، حيث لا مجال للشك في هذه الحقيقة، ولا موقع للريب، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} عندما ينذر ويخبر ويتوعّد. وماذا بعد ذلك؛ إنها الحقيقة العارية التي لا تترك أمامها أي ضباب أو ظلمة...