مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا} (87)

ثم قال تعالى : { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في كيفية النظم وجهان : الأول : أنا بينا أن المقصود من قوله : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله : { إن الله كان على كل شىء حسيبا } ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية ، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان ، فقوله : { لا إله إلا هو } إشارة إلى التوحيد ، وقوله : { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } إشارة إلى العدل ، وهو كقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط } وكقوله في طه : { إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى } وهو إشارة إلى التوحيد ثم قال : { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى } وهو إشارة إلى العدل ، فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة فينتصف للمظلومين من الظالمين ، ولا شك أنه تهديد شديد . الثاني : كأنه تعالى يقول : من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر ، فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو ، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : قوله : { لا إله إلا هو } إما خبر للمبتدأ ، وإما اعتراض والخبر { ليجمعنكم } واللام لام القسم ، والتقدير : والله ليجمعنكم .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لم لم يقل : ليجمعنكم في يوم القيامة ؟

والجواب من وجهين : الأول : المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة . الثاني : التقدير : ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه .

المسألة الرابعة : قال الزجاج : يجوز أن يقال سميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم ، ويجوز أيضا أن يقال : سميت بهذا الاسم لأن الناس يقومون للحساب قال تعالى : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } قال صاحب «الكشاف » : القيام القيامة ، كالطلاب والطلابة .

المسألة الخامسة : اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أثبت أن القيامة ستوجد لا محالة ، وجعل الدليل على ذلك مجرد إخبار الله تعالى عنه ، وهذا حق ، وذلك لأن المسائل الأصولية على قسمين منها ما العلم بصحة النبوة يكون محتاجا إلى العلم بصحته ، ومنها ما لا يكون كذلك . والأول مثل علمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات ، فأنا ما لم نعلم ذلك لا يمكننا العلم بصدق الأنبياء ، فكل مسألة هذا شأنها فإنه يمتنع إثباتها بالقرآن وإخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإلا وقع الدور .

وأما القسم الثاني : وهو جملة المسائل التي لا يتوقف العلم بصحة النبوة على العلم بصحتها فكل ذلك مما يمكن اثباته بكلام الله وإخباره ومعلوم أن قيام القيامة كذلك ، فلا جرم أمكن إثباته بالقرآن وبكلام الله ، فثبت أن الاستدلال على قيام القيامة بإخبار الله عنه استدلال صحيح .

المسألة السادسة : قوله : { ومن أصدق من الله حديثا } استفهام على سبيل الإنكار ، والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا وأن الكذب والخلف في قوله محال . وأما المعتزلة فقد بنوا ذلك على أصلهم ، وهو أنه تعالى عالم بكون الكذب قبيحا ، وعالم بكونه غنيا عنه ، وكل من كان كذلك استحال أن يكذب . إنما قلنا : إنه عالم بقبح الكذب ، وعالم بكونه غنيا عنه لأن الكذب قبيح لكونه كذبا ، والله تعالى غير محتاج إلى شيء أصلا ، وثبت أنه عالم بجميع المعلومات فوجب القطع بكونه عالما بهذين الأمرين ، وأما أن كل من كان كذلك استحال أن يكذب فهو ظاهر لأن الكذب جهة صرف لا جهة دعاء ، فإذا خلا عن معارض الحاجة بقي ضارا محضا فيمتنع صدور الكذب عنه ، وأما أصحابنا فدليلهم أنه لو كان كاذبا لكان كذبه قديما ، ولو كان كذبه قديما لامتنع زوال كذبه لامتناع العدم على القديم ، ولو امتنع زوال كذبه قديما لامتنع كونه صادقا ، لأن وجود أحد الضدين يمنع وجود الضد الآخر ، فلو كان كاذبا لامتنع أن يصدق لكنه غير ممتنع ، لأنا نعلم بالضرورة أن كل من علم شيئا فإنه لا يمتنع عليه أن يحكم عليه بحكم مطابق للمحكوم عليه ، والعلم بهذه الصحة ضروري ، فإذا كان إمكان الصدق قائما كان امتناع الكذب حاصلا لا محالة ، فثبت أنه لا بد من القطع بكونه تعالى صادقا .

المسألة السابعة : استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن كلام الله تعالى محدث ، قالوا لأنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآية وفي قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } والحديث هو الحادث أو المحدث ، وجوابنا عنه : إنكم إنما تحكمون بحدوث الكلام الذي هو الحرف والصوت ونحن لا ننازع في حدوثه ، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر غير هذه الحروف والأصوات ، والآية لا تدل على حدوث ذلك الشيء البتة بالاتفاق منا ومنكم ، فأما منا فظاهر ، وأما منكم فإنكم تنكرون وجود كلام سوى هذه الحروف والأصوات ، فكيف يمكنكم أن تقولوا بدلالة هذه الآية على حدوثه ، والله أعلم .