اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا} (87)

وجه النَّظْمِ أنه - تعالى - يقول : من سَلَّم عليْكُم وحيَّاكُم ، فاقبلوا سَلامَهُ وأكْرِمُوه وعامِلُوه بناءً على الظَّاهِر ، وأما{[9115]} البَوَاطِن فلا{[9116]} يعْلَمُها إلا اللَّهُ الذي لا إله إلا هُو ، وإنما تَنْكَشِفُ بواطن الخَلْقِ في يَوْم القِيَامَة . قوله : " ليجمعنكم " جواب قَسَم مَحْذُوف .

[ قال القُرْطُبِيُّ : اللامُ في قوله : " ليجمعنكم " ]{[9117]} لام قَسَم ، نزلت في الَّذِين شَكُّوا في البَعْثِ ، فأقْسَمَ الله - تعالى - بنفسه ، وكلُّ لامٍ بعدها نُونٌ مشَدَّدَةٌ فهي لامُ القَسَم وفي جملةِ هذا القَسَمِ مع جوابه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدُها : أنها في مَحَل رفعٍ خَبَراً ثانياً لقوله : " الله " ، و " لا إله إلا هو " : جُمْلَةُ خَبَر أوّل .

والثاني : أنها خَبَر لقوله : " الله " أيضاً ، و " لا إله إلا هو " : جملة اعتراضٍ بين المُبْتَدأ وخبره .

والثالث : أنها مُسْتَأنَفةٌ لا محلَّ لها من الإعْرَاب ، وقد تقدم إعْرَاب { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } [ البقرة : 255 ] و{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] في البقرة .

قوله : { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فيه ثلاثةُ أوجه :

أحدُها : أنها على بابها من انتهَاءِ الغَايَة ، قال أبو حيان{[9118]} : ويكونُ الجَمْعُ في القُبُور ، أو تُضمِّن " ليجمعنكم " معنى " ليحشرنكم " فيُعَدَّى ب " إلى " ، يعني : أنه إذا ضُمِّن الجَمْعُ معنى الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مَجْمُوع فيه .

وقال أبو البقاءِ{[9119]} - بعد أن جوَّز فيها أنْ تَكُون بمَعْنَى " في " - : " وقيل : هي على بابها ، أي : ليجْمَعَنَّكم في القُبُور ؛ فعلى هذا يَجُوز أن يكُون مَفْعُولاً به ، ويجُوز أن يكونَ حَالاً ، أي : ليجمَعَنَّكم مُفْضين إلى حِسَاب يوم القيامة " يريد بقوله " مفعولاً به " : أنه فَضْلَةٌ كَسَائِر الفضلات ، نحو : " سرتُ إلى الكُوفَةِ " ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأنْ يُضَمَّنَ الجمعُ مَعْنَى الحَشْرِ كما تقدَّم ، وأمَّا تقديره الحَالَ ب " مفضين " فغيرُ جَائزٍ ؛ لأنَّه كونٌ مقيَّدٌ .

والثاني : أنَّها بمعنى " فِي " أي : في يوم القِيَامَةِ ، ونظيره قولُ النَّابغة : [ الطويل ]

فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأنَّنِي *** إلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القَارُ أجْرَبُ{[9120]}

أي : في النَّاسِ .

والثالث : أنها بِمَعْنَى " مَعَ " ، وهذا غيرُ وَاضِح المَعْنَى .

قال القُرْطِبي : وقيل : " إلى " وصلة في الكلام ، والمَعْنَى : " ليجمعنكم " يوم القيامة والقيامة بمعنى القِيام كالطِّلابة والطِّلاب ؛ قالوا : ودخلت التاءُ فيه للمُبَالَغَة ، كعلاَّمة ونَسَّابَة ؛ لِشدَّةِ ما يَقَع فيه من الهَوْل ، وسُمِّي بذلك لقيام الناس فيه للحساب ؛ قال تعالى :

{ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ المطففين : 6 ] .

وقال الزَّجَّاج : يجُوز أن يُقال : سمُيِّت القِيَامَة قِيَامة ؛ لقيام الناس من قبُورهم ؛ قال - تعالى - : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ } [ المعارج : 43 ] .

والجُمْلَة من قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيها وجهان :

أحدهما : أنَّها في مَحَلِّ نصب على الحال من " يوم " ، فالضَّمِير في " فيه " يعودُ عليه .

والثاني : أنها في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدرٍ مَحْذُوف دَلَّ عليه " ليجمعنكم " أي : جمعاً لا رَيْبَ فيه ، والضميرُ يعود عليه والأولُ أظهرُ ، " ومن أصدق " ، تقدَّم نظيرُ هذه الجُمْلَة ، و " حديثاً " نصبٌ على التَّمييز . وقرأ الحُمْهُور : " أصدق " بصاد خَالِصَة ، وحمزة والكسائي : بإشمامها زاياً ، وهكذا كلُّ صَادٍ ساكِنَةٍ بعدها دالٌ{[9121]} ، نحو : " تصدقون " و " تصدية " ، وهذا كما فعل حَمْزَة في { الصّرَاطَ } [ الفاتحة : 6 ] و

{ بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] ، للمجانسة قصد الخِفَّةِ .

فصل

قوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً } أي : قولاً ووَعْداً ، وهذا اسْتِفْهَام على سبيل الإنْكَار ، والمَقْصُود منه : وجُوب كَوْنه - تعالى - صادقاً ، وأن الكَذِب والخُلْفَ في قوله مُحَالٌ .

قال ابن الخَطِيب{[9122]} : ظاهر الآيةِ يدُلُّ على أنَّه - تعالى - أثْبَت أن القِيَامة ستُوجَد لا مَحَالَة ، وجعل الدَّلِيل على ذلك مُجَرَّد إخْبَار الله - تعالى - عنه ، وهذا حَقٌّ ؛ لأن المَسَائِل الأصُولِيَّة على قِسْمَين : منها ما العلم{[9123]} بِصِحَّة النبُوَّة يَحْتَاج إلى العِلْم بِصِحَّتِه ، ومنها ما لا يكُون كَذَلِك .

فالأوَّل : مثل عِلْمنا بافتقار{[9124]} العَالِم إلى صَانِعِ عالم بالمَعْلُومات قادرٍ على كل المُمْكِنَات ، فإنَّا ما{[9125]} لم نَعْلَم ذلك ، لا يمكننا العِلْمُ بصدقِ الأنْبِيَاء ، فكل مَسْألة ، هذا شَأنُها ، فإنه يَمْتَنِعُ إثباتُها بالقُرْآن وإخْبار الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - وإلا وقع الدَّوْر .

وأما القسم الثَّاني : وهو جملة المَسَائِل التي لا يَتَوَقَّف العِلْم بِصِحَّة النُّبُوَّة على العِلْم بصحَّتِها ، فكل ذلك مِمَّا يمكن إثْبَاته بكَلاَم اللَّه - تعالى - وإخْبَاره ، ومَعْلُوم أن قِيَامَ السَّاعة كذلك ، فلا جَرَم أمْكَن إثْبَاتُه بالقُرْآنِ وبكلام الله - تعالى - ، فثبت أن الاستدلالَ على قِيَامِ القِيَامَةِ بإخْبَار اللَّه - تعالى - عنه استِدْلال صَحِيحٌ . انتهى .

فصل

استدلت المُعْتَزِلَة بهذه الآية على أنَّ كلام الله - تعالى - مُحْدَثٌ ، قالوا : لأنَّهُ تعالى وَصَفَهُ بكونه حَدِيثاً في هذه الآيَةِ وفي قَوْله - تعالى- : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً } [ الزمر : 23 ] ، والحديث : هو الحَادِثُ والمُحْدَث .

والجواب : أنكم تَحْكُمُون بحدُوثِ الكلام الذي هو الحَرْف والصَّوْت ، ونحن لا نُنَازعُ في حُدُوثهِ ، إنما [ الَّذِي ]{[9126]} نَدَّعِي قدمه شَيْء آخَر غير هذه الحُرُوف والأصْوَات ، والآيَةُ لا تدل على حُدُوث ذلك الشَّيْء ألْبَتَّةَ بالاتِّفَاقِ منَّا ومنْكُم ؛ أمَّا مِنَّا : فظاهِر ، وأما منكم : فإنَّكُم تَنْكِرُون وُجُود كلامٍ سوى هذه الحُرُوف والأصْوات ، فكَيْف يُمْكِنكُم أن تَقُولوا بدلالة هذه الآيَة على حُدُوثه .


[9115]:في ب: فأما.
[9116]:في ب: فما.
[9117]:سقط في أ.
[9118]:ينظر: البحر المحيط 3/325.
[9119]:ينظر: الإملاء 1/189.
[9120]:تقدم برقم 130.
[9121]:ينظر: العنوان 85، وشرح شعلة 342، وإتحاف 1/517، والبحر المحيط 3/326، والدر المصون 2/406.
[9122]:ينظر: تفسير الرازي 10/173.
[9123]:في ب: يعلم.
[9124]:في أ: بانتقال.
[9125]:في ب: فإننا إذا.
[9126]:سقط في أ.