قوله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } قال السدي : التقي الأخنس بن شريق ، وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد بن عبد الله ، أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري ، فقال أبو جهل : والله إن محمداً لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء ، والسقاية ، والحجابة ، والندوة ، والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية . وقال ناجبة بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : لا نتهمك ولا نكذبك ، ولكنا نكذب الذي جئت به ، فأنزل الله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } بأنك كاذب .
قوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك } ، قرأ نافع والكسائي بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، من التكذيب ، والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب ، وتقول له : كذبت ، والإكذاب هو أن تجده كاذباً ، تقول العرب : أجدبت الأرض وأخصبتها ، إذا وجدتها جدبة ومخصبة .
قوله تعالى : { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ، يقول : إنهم لا يكذبونك في السر ، لأنهم قد عرفوا صدقك فيما مضى ، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي ، كما قال : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل :94 ] .
{ 33 - 35 } { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
أي : قد نعلم أن الذي يقول المكذبون فيك يحزنك ويسوءك ، ولم نأمرك بما أمرناك به من الصبر إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية . فلا تظن أن قولهم صادر عن اشتباه في أمرك ، وشك فيك . { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ } لأنهم يعرفون صدقك ، ومدخلك ومخرجك ، وجميع أحوالك ، حتى إنهم كانوا يسمونه -قبل البعثة- الأمين . { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : فإن تكذيبهم لآيات الله التي جعلها الله على يديك{[286]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلََكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقول المشركون ، وذلك قولهم له : إنه كذّاب ، فإنهم لا يكذّبونك .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك بمعنى : أنهم لا يكذّبونك فيما أتيتهم به من وحي الله ، ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحا بل يعلمون صحته ، ولكنهم يجحدون حقيقته قولاً فلا يؤمنون به . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون : أكذبت الرجل : إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه . قال : ويقولون : كذبته : إذا أخبرت أنه كاذب . وقرأته جماعة من قرّاء المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة : فإنّهُمْ لا يُكَذّبونَكَ بمعنى : أنهم لا يكذّبونك علما ، بل يعلمون أنك صادق ، ولكنهم يكذّبونك قولاً ، عنادا وحسدا .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء ، ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم . وذلك أن المشركين لا شكّ أنه كان منهم قوم يكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعونه عما كان الله تعالى خصه به من النبوّة فكان بعضهم يقول : هو شاعر ، وبعضهم يقول : هو كاهن ، وبعضهم يقول : هو مجنون وينفي جميعهم أن يكون الذي أتاهم به من وحي السماء ومن تنزيل ربّ العالمين قولاً . وكان بعضهم قد تبين أمره وعلم صحة نبوّته ، وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوّته حسدا له وبغيا . فالقارىء : «فإنهم لا يُكْذِبُونك » يعني به : أن الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوّتك وصدق قولك فيما تقول ، يجحدون أن يكون ما تتلوه عليهم من تنزيل الله ومن عند الله قولاً ، وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علما صحيحا مصيبٌ . لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته . وفي قول الله تعالى في هذه السورة : الّذِينَ آتَيْناهُمْ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كمَا يَعْرِفونَ أبْناءَهُمْ أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم العناد في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم ، مع علم منهم به وصحة نبوّته . وكذلك القارىء : «فإنهم لا يُكَذّبُونَكَ » : يعني : أنهم لا يكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عنادا لا جهلاً بنبوّته وصدق لهجته مصيبٌ . لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم مَن هذه صفته . وقد ذهب إلى كلّ واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال : معنى ذلك : فإنهم لا يكذّبونك ، ولكنهم يجحدون الحقّ على علم منهم بأنك نبيّ لله صادق .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : قَدْ نَعْلَمُ إنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : «كذّبني هؤلاء » . قال : فقال له جبريل : إنهم لا يكذّبونك هم يعلمون أنك صادق ، وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : «كذّبني هَؤلاءِ » . فقال له جبريل : إنهم لا يكذّبونك ، إنهم ليعلمون أنك صادق ، وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ قال : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط : عن السديّ ، في قوله : قَدْ نَعْلَمُ إنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فإنّهُمْ لا يُكَذّبونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ لما كان يوم بدر ، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة ، إن محمدا ابن أختكم ، فأنتم أحقّ من كفّ عنه فإنه إن كان نبيا لم تقاتلونه اليوم ؟ وإن كان كاذبا كنتم أحقّ من كفّ عن ابن أخته ، قفوا ههنا حتى ألقي أبا الحكم ، فإن غلب محمد صلى الله عليه وسلم رجعتم سالمين ، وإن غُلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيؤمئذ سمي الأخنس ، وكان اسمه أبيّ . فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل ، فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا . فقال أبو جهل : ويحك ، والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قطّ ، ولكن إذا ذهب بنوقصيّ باللواء والحجابة والسقاية والنبوّة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال : ليس يكذّبون محمدا ، وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .
ذكر من قال ذلك بمعنى : فإنهم لا يكذّبونك ولكنهم يكذّبون ما جئت به :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية ، قال : قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ما نتهمك ، ولكن نتهم الذي جئت به . فأنزل الله تعالى : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب : أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذّبك ، ولكن نكذّب الذي جئت به . فأنزل الله تعالى : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .
وقال آخرون : معنى ذلك : فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال : لا يبطلون ما في يديك .
وأما قوله : وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ فإنه يقول : ولكن المشركين بالله بحجج الله وآي كتابه ورسوله يجحدون ، فينكرون صحة ذلك كله . وكان السديّ يقول : الاَيات في هذا الموضع معنيّ بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل .
{ قد يعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله :
ولكنه قد يهلك المال نائله *** . . .
والهاء في أنه للشأن . وقرئ { ليحزنك } من أحزن . { فإنهم لا يكذبونك } في الحقيقة . وقرأ نافع والكسائي { لا يكذبونك } من أكذبه إذا وجده كاذبا ، أو نسبة إلى الكذب . { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها ، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم ، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم ، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب .
{ قد نعلم } الآية ، { قد } الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدراً عنده ، فإذا كان الفعل خالصاً للاستقبال كان التوقع من المتكلم ، كقولك قد يقوم زيد وقد ينزل المطر في شهر كذا ، وإذا كان الفعل ماضياً أو فعل حال بمعنى المضي مثل آيتنا هذه ، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم موجب ما أخبر به ، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم بأحد المتوقعين ، و { نعلم } تتضمن إذا كانت من الله تعالى استمرار العلم وقدمه ، فهي تعم المضي والحال والاستقبال ، ودخلت «إن » للمبالغة في التأكيد ، وقرأ نافع وحده «ليُحزنك » من أحزن ، وقرأ الباقون «ليَحزنك » من حزن الرجل ، وقرأ أبو رجاء «لِيحزِنْك » بكسر اللام والزاي وجزم النون ، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة «يحزنك » بغير لام ، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي يحزن حزناً وحزناً وحزنته أنا ، وحكي عن الخليل أن قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته ، ولكنه بمعنى جعلت فيه حزناً كما تقول كحلته ودهنته ، قال الخليل ولو أردت تغيير حزن لقلت أحزنته ، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب «خباة » العرب أحزنت الرجل ، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر استعمالاً عندهم من أحزنته ، فمن قرأ «ليُحزنك » بضم الياء فهو على القياس في التغيير ، ومن قرأ «ليَحزنُك » بفتح الياء وضم الزاي فهو على كثرة الاستعمال ، و { الذي يقولون } لفظ يعم جميع أقوالهم التي تتضمن الرد على النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته ، كقول بعضهم :إنه كذاب ، مفتر ، ساحر ، وقول بعضهم : له َرِئيُّ من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر وعاصم وحمزة { لا يكذبونك } بتشديد الدال وفتح الكاف ، وقرأها ابن عباس وردها على قارىء عليه «يُكذبونك » بضم الياء ، وقال : إنهم كانوا يسمونه الأمين ، وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال ، وقرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان ، اختلف المتأولون في معناهما فقالت فرقة : هما بمعنى واحد كما تقول :
سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت ، حكى الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ، وتقول العرب ايضاً : أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول«أحمدته » إذا وجدته محموداً ، فالمعنى على قراءة من قرأ «يكذّبونك » بتشديد الذال أي لا تحزن «فإنهم لا يكذبونك » تكذيباً على جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عناداً منهم وظلماً ، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة التي حكى عنها أنها كانت تقول : إنا لنعلم أن محمداً صادقاً ولكن إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبداً ، رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه ، وحكى النقاش أن الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر ، ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس{[4895]} ، والمعنى على قراءة من قرأ «يكذبونك » بتخفيف الذال يحتمل ما ذكرناه أولاً في «يكذبونك » أي لا يجدونك كاذباً في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في «يكذّبونك » بشد الذال ، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، و { يجحدون } حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار ، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما ، وعلى قول من رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظاً عليهم وتقبيحاً لفعلهم ، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يعلمها وُيِقَّربها .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وجميع ما في هذه التأويلات من نفي التكذيب إنما هو عن اعتقادهم ، وأما أقوال جميعهم فمكذبة ، إما له وإما للذي جاء به .
قال القاضي أبو محمد : وكفر العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر وظواهر القرآن تعطيه ، كقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }{[4896]} وغيرها ، وذهب بعض المتكلمين إلى المنع من جوازه ، وذهبوا إلى أن المعرفة تقتضي الإيمان ، والجحد يقتضي الكفر ، ولا سبيل إلى اجتماعهما ، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا في قوله تعالى :{ وجحدوا بها } [ النمل : 14 ] إنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم وغيرها .
قال القاضي أبو محمد : ودفع ما يتصور ويعقل من جواز كفر العناد على هذه الطريقة صعب ، أما أن كفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد لأنه لا داعية إلى كفر العناد إلا الحسد ، ومن عرف الله والنبوة وأن محمداً يجيئه ملك من السماء فلا سبيل إلى بقاء الحسد مع ذلك ، أما أنه جائز فقد رأى أبو جهل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فحلاً عظيماً من الإبل قد همَّ بأبي جهل ولكنه كفر مع ذلك ، وأسند الطبري أن جبريل عليه السلام وجد النبي عليه السلام حزيناً فسأله ، فقال : كذبني هؤلاء ، فقال : «إنهم لا يكذبونك » بل يعلمون أنك صادق { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ، والذي عندي في كفر حيي بن أخطب ومن جرى مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفونها أو أكثرها ، ثم يرون من آياته زائداً على ما عندهم فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب ، وتتخالج ظنونهم فيقولون مرة :هو ذلك ، ومرة : عساه ليسه ، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم وفقدهم الرياسة ، فيتزايد ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا ، وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون بأشياء معاندون في أشياء غيرها وأنا أستبعد العناد مع المعرفة التامة .