وأما قوله { لا تدركه الأبصار } ، فاعلم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو : الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به ، والرؤية : المعاينة ، وقد تكون الرؤية بلا إدراك ، قال الله تعالى في قصة موسى { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا } [ الشعراء :61 ] وقال { لا تخاف دركاً ولا تخشى } [ طه :77 ] ، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية ، فالله عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وإحاطة ، كما يعرف في الدنيا ، ولا يحاط به ، قال الله تعالى : { لا يحيطون به علماً } [ طه :110 ] فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم ، قال سعيد بن المسيب : لا تحيط به الأبصار ، وقال عطاء : كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به ، وقال ابن عباس ومقاتل : لا تدركه الأبصار في الدنيا ، وهو يرى في الآخرة ، قوله تعالى : { وهو يدرك الأبصار } ، أي لا يخفى على الله شيء ولا يفوته .
قوله تعالى : { وهو اللطيف الخبير } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : اللطيف بأوليائه ، الخبير بهم ، وقال الأزهري : معنى : { اللطيف } الرفيق بعباده ، وقيل : اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق ، وقيل : اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا ، واصل اللطف دقة النظر في الأشياء .
{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لعظمته ، وجلاله وكماله ، أي : لا تحيط به الأبصار ، وإن كانت تراه ، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم ، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية ، بل يثبتها بالمفهوم . فإنه إذا نفى الإدراك ، الذي هو أخص أوصاف الرؤية ، دل على أن الرؤية ثابتة .
فإنه لو أراد نفي الرؤية ، لقال " لا تراه الأبصار " ونحو ذلك ، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة ، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة ، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم .
{ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } أي : هو الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة ، والخفية ، وبصره بجميع المبصرات ، صغارها ، وكبارها ، ولهذا قال : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبرته ، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا ، والخبايا والبواطن .
ومن لطفه ، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه ، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد ، ولا يسعى فيها ، ويوصله إلى السعادة الأبدية ، والفلاح السرمدي ، من حيث لا يحتسب ، حتى أنه يقدر عليه الأمور ، التي يكرهها العبد ، ويتألم منها ، ويدعو الله أن يزيلها ، لعلمه أن دينه أصلح ، وأن كماله متوقف عليها ، فسبحان اللطيف لما يشاء ، الرحيم بالمؤمنين .
وقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } جملة مستأنفة إما مؤكدة لقوله { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فيجب أن يخاف ويحذر ، وأما مؤكدة أعظم تأكيد لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليمه عما وصفه به المشركون ، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعبودة وهى أبصار أهل الدنيا لجلاله وكبريائه وعظمته . فكيف يكون له ولد ؟
والإدراك : اللحاق والوصل إلى الشىء والإحاطة به . والأبصار جمع بصر يطلق - كما قال الراغب - على الجارحة الناظرة وعلى القوة التى فيها .
والمعنى : لا تحيط بعظمته وجلاله على ما هو عليه - سبحانه - أبصار الخلائق ، أو لا تدركه الأبصار إدراك إحاطة بكنهه وحقيقته فإن ذلك محال والإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التى هى مجرد المعاينة ، فنفيه لا يقتضى نفى الرؤية ، لأن نفى الأخص لا يقتضى نفى الأعم فأنت ترى الشمس والقمر ولكنك لا تدرك كنههما وحقيقتهما .
هذا : وهناك خلاف مشهور بين أهل السنة والمعتزلة فى مسألة رؤية الله - تعالى - فى الآخرة .
أما أهل السنة فيجيزن ذلك ويستشهدون بالكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله - تعالى - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ومن السنة ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلى قال : كنا جلوساً عند النبى صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون فى رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) " .
قال الإمام ابن كثير : تواترت الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله فى الدار الآخرة فى العرصات وفى روضات الجنات " .
أما المعتزلة فيمنعون رؤية المؤمنين لله - تعالى - فى الآخرة ، واستدلوا فيما استدلوا بهذه الآية ، وقالوا : إن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين ما أدركته ببصرى ورأيته إلا فى اللفظ .
والذى نراه أن رأى أهل السنة أقوة لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق ، فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام .
وقوله { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } أى : وهو يدرك القوة التى تدرك بها المبصرات . ويحيط بها علما ، إذ هو خالق القوى والحواس .
وقوله { وَهُوَ اللطيف الخبير } أى : هو الذى يعامل عباده باللطف والرأفة وهو العليم بدقائق الأمور وجلياتها .
جملة ابتدائيّة لإفادة عظمته تعالى وسعة علمه ، فلعظمته جلّ عن أن يحيط به شيء من أبصار المخلوقين ، وذلك تعريض بانتفاء الإلهيّة عن الأصنام الّتي هي أجسام محدودة محصورة متحيّزة ، فكونُها مدركة بالأبصار من سمات المحدثات لا يليق بالإلهيّة ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار ، وكذلك الكواكب الّتي عبدها بعض العرب ، وأمّا الجنّ والملائكة وقد عبدوهما فإنّهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكلّ النّاس ولا في كلّ الأوقات إلاّ أنّ المشركين يزعمون أنّ الجنّ تَبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها . قال شَمِر بن الحارث الضبي :
أتَوْا ناري فقلتُ مَنُونَ أنتُم *** فقالوا الجنّ قلتُ عِمُوا ظَلامَا
ويتوهّمون أنّ الملائكة يظهرون لبعض النّاس ، يتلقّون ذلك عن اليهود .
والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب . ويطلق مجازاً على شعور الحاسّة بالمحسوس أو العقللِ بالمعقول يقال : أدركَ بصري وأدرك عقْلي تشبيهاً لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيهَ المعقول بالمحسوس ، ويقال : أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله ، ولا يقال : أدرك فلان بدون تقييد ، واصطلح المتأخّرون من المتكلّمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكاً ، وجعلوا الإدراك جنساً في تعريف التصوّر والتّصديق ، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدّراكَة .
وأمّا قوله تعالى : { وهو يدرك الأبصار } فيجوز أن يكون إسنادُ الإدراك إلى اسم الله مشاكلة لما قبله من قوله : { لا تدركه الأبصار } . ويجوز أن يكون الإدراك فيه مستعاراً للتصرّف لأنّ الإدراك معناه النوال .
والأبصار جمع بصر ، وهو اسم للقوّة الّتي بها النّظر المنتشرة في إنسان العين الّذي في وسط الحَدقة وبه إدراك المبصرات . والمعنى : لا تحيط به أبصار المبصرين لأنّ المدرِك في الحقيقة هو المبصِر لا الجارحة ، وإنّما الجارحة وسيلة للإدراك لأنّها توصّل الصّورة إلى الحسّ المشترك في الدّماغ . والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصيّة الإلهِ الحقّ عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم ، فإنّ الله لا يُرى وأصنامهم تُرى ، وتلك الخصوصيّة مناسبة لعظمته تعالى ، فإنّ عدم إحاطة الأبصار بالشّيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار ، فعموم النّكرة في سياق النّفي يدلّ على انتفاء أن يُدركه شيء من أبصار المبصِرين في الدّنيا كما هو السّياق .
ولا دلالة في هذه الآية على انتفاء أن يكون الله يُرى في الآخرة ، كما تمسّك به نفاة الرّؤية ، وهم المعتزلة لأنّ للأمور الآخرة أحوالاً لا تجري على متعارفنا ، وأحرى أن لا دلالة فيها على جواز رؤيته تعالى في الآخرة . ومن حاول ذلك فقد تكلّف ما لا يتمّ كما صنع الفخر في « تفسيره » .
والخلاف في رؤية الله في الآخرة شائع بين طوائف المتكلّمين ؛ فأثبته جمهور أهل السنّة لكثرة ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة مع اتّفاقهم على أنّها رؤية تخالف الرّؤية المتعارفة .
وعن مالك رحمه الله « لو لم يَر المؤمنون ربّهم يوم القيامة لم يُعَيَّر الكفّار بالحجاب في قوله تعالى : { كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] . وعنه أيضاً « لم يُر الله في الدّنيا لأنّه باق ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصاراً باقية رأوا الباقيَ بالباقي » . وأمّا المعتزلة فقد أحالوا رؤية الله في الآخرة لاستلزامها الانحياز في الجهة . وقد اتّفقنا جميعاً على التّنزيه عن المقابلة والجهة ، كما اتّفقنا على جواز الانكشاف العلمي التّامّ للمؤمنين في الآخرة لحقيقة الحقّ تعالى ، وعلى امتناع ارتسام صورة المرْئي في العين أو اتّصال الشّعاع الخارج من العين بالمرئي تعالى لأنّ أحوال الأبصار في الآخرة غير الأحوال المتعارفة في الدّنيا . وقد تكلّم أصحابنا بأدلّة الجواز وبأدلّة الوقوع ، وهذا ممّا يجب الإيمان به مجملاً على التّحقيق . وأدلّة المعتزلة وأجوبتنا عليها مذكورة في كتب الكلام وليست من غرض التّفسير ومرجعها جميعاً إلى إعمال الظاهر أو تأويله .
ثمّ اختلف أيمّتنا هل حصلت رؤية الله تعالى للنّبيء صلى الله عليه وسلم فنفى ذلك جمع من الصّحابة منهم عائشة وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهم وتمسّكوا بعموم هذه الآية كما ورد في حديث البخاري عن عكرمة عن عائشة . وأثبتها الجمهور ، ونقل عن أبَيّ بن كعب وابن عبّاس رضي الله عنهما ، وعليه يكون العموم مخصوصاً . وقد تعرّض لها عياض في « الشّفاء » . وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بجواب اختلف الرّواةُ في لفظه ، فحجب الله بذلك الاختلاف حقيقةَ الأمر إتماماً لمراده ولطفاً بعباده .
وقوله : { وهو يدرك الأبصار } معطوف على جملة : { لا تدركه الأبصار } فإسناد الإدراك إلى ضمير اسمه تعالى إمّا لأنّ فعل { يُدرك } استعير لمعنى يَنال ، أي لا تخرج عن تصرّفه كما يقال : لَحِقَه فأدركه ، فالمعنى يَقدر على الأبصار ، أي على المبصِرين ، وإمّا لاستعارة فعل { يدرك } لمعنى يعلم لمشاكلة قوله : { لا تدركه الأبصار } أي لا تعلمه الأبصار . وذلك كناية عن العلم بالخفيّات لأنّ الأبصار هي العَدَسات الدّقيقة الّتي هي واسطة إحساس الرّؤية أو هي نفس الإحساس وهو أخفى . وجَمعهُ باعتبار المدرِكين .
وفي قوله : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } محسِّن الطِّباق .
وجملة : { وهو اللّطيف الخبير } معطوفة على جملة : { لا تدركه الأبصار } فهي صفة أخرى . أو هي تذييل للاحتراس دفعا لتوهّم أنّ من لا تدْركه الأبصار لا يعلم أحوال من لا يدركونه .
واللّطيف : وصف مشتقّ من اللّطف أو من اللّطافة . يقال : لطف بفتح الطّاء بمعنى رَفق ، وأكرَم ، واحتفَى . ويتعدّى بالباء وباللاّم باعتبار ملاحظة معنى رَفق أو معنى أحْسن . ولذلك سمّيت الطُّرفة والتُّحفَة الّتي يكرَم بها المرء لَطفَا ( بِالتّحريكِ ) ، وجمعها ألطاف . فالوصف من هذا لاَطِف ولَطِيف ؛ فيكون اللّطيف اسمَ فاعل بمعنى المبالغة يدلّ على حذف فعل من فاعله ، ومنه قوله تعالى عن يوسف { إنّ ربّي لطيف لما يشاء } [ يوسف : 100 ] . ويقال لَطُفَ بضمّ الطّاء أي دَقّ وخَفّ ضدّ ثَقُل وكَثُف .
واللّطيف : صفة مشبّهة أو اسم فاعل . فإن اعتبرت وصفاً جارياً على لطُف بضمّ الطّاء فهي صفة مشبّهة تدلّ على صفة من صفات ذات الله تعالى ، وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته ، فيكون اختيارها للتّعبير عن هذا الوصف في جانب الله تعالى هو منتهى الصّراحة والرّشاقة في الكلمة لأنّها أقرب مادّة في اللّغة العربيّة تقرّب معنى وصفه تعالى بحسب ما وُضعت له اللّغة من متعارف النّاس ، فيَقْرب أن تكون من المتشابه ، وعليه فتكون أعمّ من مدلول جملة { لا تدركه الأبصار } ، فتتنزّل من الجملة الّتي قبلها منزلة التّذييل أو منزلة الاستدلال على الجزئيّة بالكلّية فيزيد الوصفَ قبله تمكّناً . وعلى هذا المعنى حملها الزمخشري في « الكشاف » لأنّه أنسب بهذا المقام وهو من معاني الكلمة المشهورة في كلام العرب ، واستحسنه الفخر وجوّزه الرّاغب والبيضاوي ، وهو الّذي ينبغي التّفسير به في كلّ موضع اقترن فيه وصف اللّطيف بوصف الخبير كالّذي هنا والّذي في سورة المُلك .
وإن اعتبر اللّطيف اسم فاعل من لطَف بفتح الطّاء فهو من أمثلة المبالغة يدلّ على وصفه تعالى بالرّفق والإحسان إلى مخلوقاته وإتقان صنعه في ذلك وكثرة فعله ذلك ، فيدلّ على صفة من صفات الأفعال . وعلى هذا المعنى حمله سائر المفسّرين والمبيّنين لمعنى اسمه اللّطيف في عداد الأسماء الحسنى . وهذا المعنى هو المناسب في كلّ موضع جاء فيه وصفه تعالى به مفرداً معدّى باللاّم أو بالباء نحو { إنّ ربّي لطيف لما يشاء } [ يوسف : 100 ] ، وقوله : { الله لطيف بعباده } [ الشوى : 19 ] . وبه فسّر الزمخشري قوله تعالى : { الله لطيف بعباده } فللّه درّه ، فإذا حمل على هذا المحمل هنا كان وصفاً مستقلاً عمّا قبله لزيادة تقرير استحقاقه تعالى للإفراد بالعبادة دون غيره .
و« خَبير » صفة مشبّهة من خبُر بضمّ الباء في الماضي ، خُبراً بضمّ الخاء وسكون الباء بمعنى عَلِم وعرَف ، فالخبير الموصوف بالعلم بالأمور الّتي شأنها أن يُخبر عنها عِلماً موافقاً للواقع .
ووقوع الخبير بعد اللّطيف على المحمل الأوّل وقوعُ صفة أخرى هي أعمّ من مضموننِ { وهو يدرك الأبصار } ، فيكمل التّذييل بذلك ويكون التّذييل مشتملاً على محسِّن النشر بعد اللّف ؛ وعلى المحمل الثّاني موقعه موقع الاحتراس لمعنى اللّطيف ، أي هو الرّفيق المحسن الخبير بمواقع الرّفق والإحسان وبمستحقّيه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارُ"؛ فقال بعضهم: معناه: لا تحيط به الأبصار وهو يحيط بها... واعتلّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: إن الله قال: «فَلَمّا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قالَ آمَنْتُ» قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون، ولا شكّ أن الغرق غير موصوف بأنه رآه، ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئاً. قالوا: فمعنى قوله: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ "بمعنى: لا تراه بعيداً، لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه، كما قال جلّ ثناؤه مخبراً عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم حين قرب منهم أصحاب فرعون: "فَلَمّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أصْحَابُ مُوسَى إنّا لَمُدْرَكُون" لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدركون لقوله: "ولَقَدْ أوْحَيْنا إلى مُوسَى أنْ أسْرِ بِعِبادِي فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى". قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه ويدركه ولا يراه، فكان معلوماً بذلك أن قوله: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ" من معنى لا تراه الأبصار بمعزل، وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار لأن الإحاطة به غير جائزة. قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم ولا تدركه أبصارهم، بمعنى: أنها لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئاً يحيط به. قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يُرى ولا يُدرك، جواز وصفه بأنه يُعلم ولا يحاط به، وكما قال جلّ ثناؤه: "وَلا يُحِيطُونَ بَشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلاّ بِمَا شاءَ". قالوا: فنفى جلّ ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء. قالوا: ومعنى العلم في هذا الموضع: المعلوم قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلاّ بما شاء نفي عن أن يعلموه. قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علماً نفي للعلم به، كان كذلك لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر نفي رؤيته له. قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياء ولا يحيطون بها علماً، كذلك جائز أو يروا ربهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم، إذ كان معنى الرؤية غير معنى الإدراك، ومعنى الإدراك غير معنى الرؤية، وأن معنى الإدراك: إنما هو الإحاطة، كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل.
قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ": لا تراه الأبصار؟ قلنا له: أنكرنا ذلك، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهاً في القيامة إليه ناظرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة كما يُرَى القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب. قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر وحققت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا عنه من قيله صلى الله عليه وسلم أن تأويل قوله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى ربّها ناظِرَةٌ" أنه نظر أبصار العيون لله جلّ جلاله، وكان كتاب الله يصدّق بعضه بعضاً، وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحد هذين الخبرين ناسخاً للآخر، إذ كان غير جائز في الأخبار لما قد بينا في كتابنا: «كتاب لطيف البيان عن أصول الأحكام» وغيره عُلم أن معنى قوله: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ" غير معنى قوله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبّها ناظِرَةٌ" فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله ولا يدركونه بها، تصديقاً لله في كلا الخبرين وتسليماً لما جاء به تنزيله على ما جاء به في السورتين.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار... عن السديّ: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ": لا يراه شيء، وهو يرى الخلائق.
حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، قالت: من حدّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحْياً أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ ولكن قد رأى جبريل في صورته مرّتين.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، قال: قلت لعائشة: يا أمّ المؤمنين: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله، لقد قفّ شعري مما قلت ثم قرأت: لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الخَبِيرُ...
فقال قائلو هذه المقالة: معنى الإدراك في هذا الموضع: الرؤية، وأنكروا أن يكون الله يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة. وتأوّلوا قوله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى ربّها ناظِرَةٌ" بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابه.
وتأوّل بعضهم في الأخبار التي رُوِيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربهم يوم القيامة تأويلات. وأنكر بعضهم مجيئها، ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردوا القول فيه إلى عقولهم، فزعموا أن عقولهم تُحِيل جواز الرؤية على الله عزّ وجلّ بالأبصار وأتوا في ذلك بضروب من التمويهات، وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات. وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئاً إلاّ ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها. قالوا: فما كان للأبصار مبايناً مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاء وفرجة. قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما تُرَى الأشخاصُ اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدوداً. قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان. قالوا: وأخرى، أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات، ومن شأن المتنشم أن يدرك الأعراف. قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزاً أن يقضى للسمع بغير إدراك الأصوات وللمتنسم إلاّ بإدراك الأعراف، فسد أن يكون جائزاً القضاء للبصر إلاّ بإدراك الألوان. قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفاً بأنه ذو لون، صحّ أنه غير جائز أن يكون موصوفاً بأنه مرئيّ.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الاَخرة فإنها تدركه. وقال أهل هذه المقالة: الإدراك في هذا الموضع: الرؤية.
واعتلّ أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: الإدراك وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية، فإن الرؤية من أحد معانيه وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصره شيئاً فيراه وهو لما أبصره وعاينه غير مُدرِك وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية. قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له دون ما لم يره. قالوا: وقد أخبر الله أن وجوهاً يوم القيامة إليه ناظرة، قالوا: فمحال أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤيةً. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضادّ وتعارض، وجب وصحّ أن قوله: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ" على الخصوص لا على العموم، وأن معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة، إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبّها ناظِرَةٌ".
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص، إلاّ أنه جائز أن يكون معنى الآية: لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة وأما بالرؤية فبلى. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه في الآخرة، وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصار من يراه بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصار خلقه، فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه، هو الذي أثبته لنفسه، إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلاّ فيما قوّاها جلّ ثناؤه على النفوذ فيه، وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شيء. قالوا: ولا شكّ في خصوص قوله: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ" وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم، غير أنّا لا ندري أيّ معاني الخصوص الأربعة أريد بالآية. واعتلوا بتصحيح القول بأن الله يُرى في الآخرة بنحو عِلَل الذين ذكرنا قبل.
وقال آخرون: الآية على العموم، ولن يدرك اللهَ بصر أحد في الدنيا والآخرة ولكن الله يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها.
واعتلوا لقولهم هذا، بأن الله تعالى ذكره نفى عن الأبصار أن تدركه من غير أن يدل فيها أو بآية غيرها على خصوصها. قالوا: وكذلك أخبر في آية أخرى أن وجوهاً إليه يوم القيامة ناظرة. قالوا: فأخبار الله لا تتباين ولا تتعارض، وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنزيل.
واعتلوا أيضاً من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزاً أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه وإن زيد في قواها وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت، لأن كلّ حاسة خُلقت لإدراك معنى من المعاني فهي وإن ضعفت كل الضعف فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لإدراكه وإن ضعف إدراكها إياه ما لم تعدم. قالوا: فلو كان في البصر أن يدرك صانعه في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ويراه، وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها وإن ضعف إدراكه إياه. قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا، كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلاّ بهيئتها في الدنيا أنها لا تدرك إلاّ ما كان من شأنها إدراكه في الدنيا. قالوا: فلما كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أن وجوهاً في الآخرة تراه، علم أنها تراه بغير حاسة البصر، إذ كان غير جائز أن يكون خبره إلاّ حقّا.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ كمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، وكمَا تَرَوْنَ الشّمْسَ لَيْسَ دُونَها سَحَابٌ» فالمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ، والكافِرُونَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ كما قال جلّ ثناؤه: "كَلاّ إنّهُمْ عَنْ رَبّهمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ". فأما ما اعتلّ به منكرو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار، لما كانت لا ترى إلاّ ما باينها، وكان بينها وبينه فضاء وفرجة، وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالأبصار كذلك لأن في ذلك إثبات حدّ له ونهاية، فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه، وأنه يقال لهم: هل علمتم موصوفاً بالتدبير سوى صانعكم إلاّ مماسّا لكم أو مبايناً؟ فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك كلفوا تبيينه، ولا سبيل إلى ذلك. وإن قالوا: لا نعلم ذلك، قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماسّا لكم ولا مبايناً، وهو موصوف بالتدبير والفعل، ولم يجب عندكم إذ كنتم لم تعلموا موصوفاً بالتدبير والفعل غيره إلاّ مماسّا لكم أو مبايناً أن يكون مستحيلاً العلم به وهو موصوف بالتدبير والفعل، لا مماسّ ولا مباين؟ فإن قالوا: ذلك كذلك، قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلاّ ما باينها، وكانت بينه وبينها فرجة قد تراه وهو غير مباين لها، ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء، كما لا تعلم القلوب موصوفاً بالتدبير إلاّ مماسّا لها أو مبايناً وقد علمته عندكم لا كذلك؟ هل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفاً بالتدبير والفعل معلوماً لا مماسّا للعالم به أو مبايناً وأجاز أن يكون موصوفاً برؤية الأبصار لا مماسّا لها ولا مبايناً فرق؟ ثم يُسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلاّ ألزموا في الآخر مثله. وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك، إن من شأن الأبصار إدراك الألوان، كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات، ومن شأن المتنسم درك الأعراف، فمن الوجه الذي فسد أن يقتضى السمع لغير درك الأصوات فسد أن تقتضى الأبصار لغير درك الألوان. فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم موصوفاً بالتدبير والفعل إلاّ ذا لون، وقد علمتموه موصوفاً بالتدبير لا ذا لون؟ فإن قالوا نعم، لا يجدوا من الإقرار بذلك بدّا إلاّ أن يكذبوا، فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفاً بالتدبير والفعل غير ذي لون، فيكلفوا بيان ذلك، ولا سبيل إليه، فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلاّ الألوان، كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفاً بالتدبير إلاّ ذا لون وقد وجدتموها علمته موصوفاً بالتدبير غير ذي لون؟ ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في أحدهما شيئاً إلاّ ألزموا في الاَخر مثله. ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القدر الذي ذكرنا، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلاّ إلى ما لبّس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحقّ البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يتردّدون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة
وأما قوله: "وَهُوَ اللّطِيفُ الخَبِيرُ" فإنه يقول: والله تعالى ذكره الميسر له من إدراك الأبصار، والمتأتي له من الإحاطة بها رؤية ما يعسر على الأبصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذّر عليها. "الخَبِيرُ" يقول: العليم بخلقه وأبصارهم والسبب الذي له تعذّر عليها إدراكه فلطف بقدرته، فهيأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه، وخبر بعلمه كيف تدبيرها وشئونها وما هو أصلح بخلقه
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قيل: كنى بالأبصار عن الخلق؛ كأنه قال: لا يدركه الخلق، وهو يدرك الخلق، وإنما كنى بالأبصار عن الخلق لما بالأبصار تدرك الأشياء، ويحاط بها لذلك كان معنى الكناية، والله أعلم. وقيل: هو على حقيقة الإبصار لكنه بصر القلب لما به تقع المعارف...
وأصله أن الله تبارك وتعالى، عرف بالآيات والدلائل لا بالمحسوسات والمشاهدات. وكل شيء سبيل معرفته الآيات والدلائل فهو غير محاط به ولا مدرك، فهو على ما وصف نفسه [بقوله تعالى] {ولا يحيطون به علما} [طه: 110] [وقوله تعالى]: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] لأن الإدراك والإحاطة لا تعرف بالمحسوسات إنما تعرف بالآيات والدلائل... وقوله تعالى: {وهو اللطيف الخبير} قيل {اللطيف} في أفعاله [الخبير} بخلقه وبأعمالهم، وقيل: {اللطيف} البار الرحيم، وقيل: {اللطيف} هو العليم بخفيات الأشياء و {الخبير} بظواهر الأشياء...
{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}. يقال إن الإدراك أصله اللحوق، نحو قولك: أدْرَكَ زمان المنصور، وأدْرَكَ أبا حنيفة، وأدرك الطعامُ أي لحق حال النضج، وأدرك الزرعُ والثمرةُ، وأدرك الغلامُ إذا لحق حال الرجال. وإدراك البصر للشيء لحوقه له برؤيته إياه، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل: أدركت ببصري شخصاً معناه رأيته ببصري، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركاً له، فقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} معناه: لا تراه الأبصار، وهذا تمدُّحٌ ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]، وما تمدَّح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضدّه ذمٌّ ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلاً ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفاً ولا محدوداً... ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة، وذكر هذا المذهب لمالك فقال: فأين هم عن قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطفّفين: 15]...
قوله: {وهو اللطيف الخبير} اللطافة ضد الكثافة، والمراد منه الرقة، وذلك في حق الله ممتنع، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه:
الوجه الأول: المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة، والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا الله تعالى.
الوجه الثاني: أنه سبحانه لطيف في الإنعام والرأفة والرحمة.
والوجه الثالث: أنه لطيف بعباده، حيث يثني عليهم عند الطاعة، ويأمرهم بالتوبة عند المعصية، ولا يقطع عنهم سواد رحمته سواء كانوا مطيعين أو كانوا عصاة. الوجه الرابع: أنه لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم، وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم. وأما الخبير: فهو من الخبر وهو العلم، والمعنى أنه لطيف بعباده مع كونه عالما بما هم عليه من ارتكاب المعاصي والإقدام على القبائح.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لا تدركه الأبصار} البصر: العين، إلا أنه مذكر وأبصرت الشيء رأيته، وقيل البصر: حاسة الرؤية. ابن سيده: البصر حس العين والجمع أبصار. ذكره في اللسان وقال الراغب: البصر: يقال للجارحة الناظرة نحو قوله: {كلمح البصر} [النحل: 77] {وإذ زاغت الأبصار} [الأحزاب: 10] وللقوة التي فيها. والإدراك: اللحاق والوصول إلى الشيء. يقال تبعه أو أتبعه حتى أدركه. واتبع فرعون بجنوده بني إسرائيل {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون} [الشعراء: 61] ويقال أدركه الطرف والموت ومنه {حتى إذا أدركه الغرق} [يونس: 90] في كل ذلك معنى اللحاق بعد اتباع حسي أو معنوي. والدرَك (بالفتح) أقصى قعر البحر، ومنه {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] قرئ بالفتح والتحريك، وقال الراغب الدرج كالدرك لكن الدرج يقال باعتبار الصعود والدرك اعتبارا بالحدود، وأدرك: بلغ أقصى الشيء وأدرك الصبي بلغ غاية الصبا وذلك حين البلوغ. اه. ويقال فيما بعد أو دق وخفي: لا يدركه الطرف، فإن اجتهاد النظر لإدراك ما لطف ودق إعمال له كإعماله في محاولة إبصار البعيد. ففي الإدراك معنى اللحوق ومعنى بلوغ غاية الشيء. ومن هنا فسر الجمهور الإدراك في الآية برؤية الإحاطة التي يعرف بها كنهه عز وجل فتكون بمعنى {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} [طه: 110] ففي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء لا يستلزم نفي رؤيته إياه مطلقا. وهذا أقوى ما جمع به أهل السنة بين الآية والأحاديث الصحيحة الناطقة برؤية المؤمنين لربهم في الآخرة من جهة اللغة.
ومن سلم للمعتزلة وغيرهم من منكري الرؤية قولهم إن الإدراك هنا بمعنى الرؤية مطلقا قالوا إن النفي خاص بحال الحياة الدنيا التي يعدها المخاطبون ولا يعرفون فيها رؤية إلا للأجسام وصفاتها من الأشكال والألوان وهي التي يشترط فيها ما ذكروا كالمقابلة وعدم الحائل. وقالوا إن عائشة كانت تثبت الرؤية في الآخرة وتنفيها في الدنيا حتى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان يرى من وراءه كما يرى من أمامه لغلبة روحه الشريفة اللطيفة، على جثته المنفية، وقد جلينا مسألة رؤية الرب في الآخرة في باب الفتوى من مجلد المنار التاسع عشر (ص 282-288) وسنعود إليها في تفسير قوله تعالى لموسى عليه السلام {لن تراني} [الأعراف: 143] من سورة الأعراف إن شاء الله تعالى...
وأما قوله تعالى: {وهو يدرك الأبصار} فمعناه أن الله تعالى يرى العيون الباصرة أو قوى الإبصار المودعة فيها رؤية إدراك وإحاطة بحيث لا يخفى عليه من حقيقتها ولا من علمها شيء.
وقد عرف البشر من تشريح العين ما تتركب منه طبقاتها ورطوبتها ووظائف كل منها في ارتسام المرئيات فيها، وعرفوا كثيرا من سنن الله تعالى في النور ووظائفه في رسم صور الأشياء في العينين، ولكن لم يعرفوا كنه الرؤية ولا كنه قوة الإبصار ولا حقيقة النور، وفي لسان العرب عن أبي إسحاق: أعلمَ اللهُ أنه يدرك الأبصار وفي هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه، فاعلم أن خلقا من خلقه اللطيف الخبير. فأما ما جاء من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فغير مدفوع وليس في هذه الآية دليل على دفعها لأن معنى هذه الآية إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته وهذا مذهب أهل السنة والعلم بالحديث اه.
{وهو اللطيف الخبير (103)} أي وهو اللطيف بذاته الباطن في غيب وجوده، بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته، على أنه الظاهر بآياته التي تعرفه بها العقول بطريق بالبرهان، الظاهر في مجالي ربوبيته لأهل العرفان، بتجلياته التي تكمل في الآخرة فيكون العلم به رؤية عيان، وهو في كل من بطونه وظهوره منزه عن مشابهة الخلق، فتعالى الله الملك الحق. وهو الخبير بدقائق الأشياء ولطائفها، بحيث لا يعزب عن إدراكه ألطف أرواحها وقواها، ولا أدق جواهرها وأعراضها، ففي الآية لف ونشر مرتب.
اللطيف من الأجرام ضد الكثيف والغليظ فيطلق على الدقيق منها والرقيق، واللطيف من الطباع ضد الجافي، قال في اللسان: واللطيف من الأجرام والكلام ما لا جفاء فيه، وجارية لطيفة الخصر إذا كانت ضامرة البطن، واللطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي، واللطف في العمل الرفق فيه اه، وكذا اللطف في المعاملة هو الرفق الذي لا يثقل منه الشيء. ويستعمل فعله لازما ومتعديا يقال لطف الشيء (بوزن حسن) أي صغر أو دق وصار لطيفا، ويقال لطف به ولطف له (بوزن نصر) وقال ابن الأثير في تفسير اللطيف من أسماء الله تعالى: هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه،اه، أرجعه إلى صفات الأفعال وإلى العلم من صفات المعاني. وهو في الأول أظهر وأكثر من الثاني، فمنه قوله تعالى في سورة الحج بعد ذكر إنبات النبات بالماء {إن الله لطيف خبير} [الحج: 61] وقوله في سورة الشورى: {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء} [الشورى: 17] أي رفيق بهم يوصل إليهم الخير والرزق، بمنتهى العناية والرفق. وفي سورة يوسف حكاية عنه {إن ربي لطيف لما يشاء} [يوسف: 100] فسروه بلطف التدبير والعناية به وبأبويه وإخوته يجمع شملهم بعد أن نزغ الشيطان بينهم.
وعد بعضهم من لطف العلم قوله تعالى في سورة لقمان حكاية عنه {يا بني إنها تك مثقال حبة من خردل فتكن من صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان: 15] والأظهر في معناه هنا أنه اللطيف باستخراجها من كن خفائها الخبير بمكانها منه، ونزيد عليهم أن من لطفه تعالى جعل أحكام دينه يسرا لا حرج فيها وهي من صفة الكلام الذي هو مظهر لعلمه، ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب، في آخر ما خاطب به نساء الرسول صلى الله عليه وسلم من المواعظ والحكم والأحكام، {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا} [الأحزاب: 34] فلم يبق إلا الشاهد على لطفه تعالى في ذاته، المناسب في الكمال للطفه في صفاته وأفعاله وأحكامه، وهو الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يظهر فيها غيره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير).. إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله، كالذين يطلبون في سماجة دليلا ماديا على الله! هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون! إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك.. كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون، والقيام بالخلافة في الأرض.. وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق.. فأما ذات الله -سبحانه- فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها. لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي. فضلا على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض. وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها.. وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين. ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين!... حين يقال لهم عن وجود الله -سبحانه- عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضا على العقول! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويطلبون دليلا ماديا تراه الأعين..كأن هذا الوجود بجملته، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة ابتدائيّة لإفادة عظمته تعالى وسعة علمه، فلعظمته جلّ عن أن يحيط به شيء من أبصار المخلوقين، وذلك تعريض بانتفاء الإلهيّة عن الأصنام الّتي هي أجسام محدودة محصورة متحيّزة، فكونُها مدركة بالأبصار من سمات المحدثات لا يليق بالإلهيّة ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار، وكذلك الكواكب الّتي عبدها بعض العرب، وأمّا الجنّ والملائكة وقد عبدوهما فإنّهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكلّ النّاس ولا في كلّ الأوقات إلاّ أنّ المشركين يزعمون أنّ الجنّ تَبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها... والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب. ويطلق مجازاً على شعور الحاسّة بالمحسوس أو العقلِ بالمعقول يقال: أدركَ بصري وأدرك عقْلي تشبيهاً لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيهَ المعقول بالمحسوس، ويقال: أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله، ولا يقال: أدرك فلان بدون تقييد، واصطلح المتأخّرون من المتكلّمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكاً، وجعلوا الإدراك جنساً في تعريف التصوّر والتّصديق، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدّراكَة...
والمعنى: لا تحيط به أبصار المبصرين لأنّ المدرِك في الحقيقة هو المبصِر لا الجارحة، وإنّما الجارحة وسيلة للإدراك لأنّها توصّل الصّورة إلى الحسّ المشترك في الدّماغ. والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصيّة الإلهِ الحقّ عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم، فإنّ الله لا يُرى وأصنامهم تُرى، وتلك الخصوصيّة مناسبة لعظمته تعالى، فإنّ عدم إحاطة الأبصار بالشّيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار، فعموم النّكرة في سياق النّفي يدلّ على انتفاء أن يُدركه شيء من أبصار المبصِرين في الدّنيا كما هو السّياق...
لقد اختلف العلماء عند هذه الآية، وتجلى خلافهم إلى أبعد حد؛ فمنهم مجيز للرؤية، ومنهم منكر لها، وأرى أن خلافهم في غير محل نزاع؛ لأنهم تكلموا عن الرؤية، والكلام هنا عن نفي الإدراك، والإدراك إحاطة، والرؤية تكون إجمالا، إنما الإحاطة ليست ممكنة، وعلى تقدير أن الرؤية والإدراك متحدان في المفهوم نقول: لماذا يكون الخلاف في أمر الآخرة؟ لو أن الخلاف في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلاما جميلا، ولكن الخلاف جعلتموه في الآخرة. إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم الله على المؤمنين، وهي زيادة في الحسنى عليهم، وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول – أيضا – لماذا: لا تقولون إن الإدراك سيوجد في الآخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا؟ لأننا في هذه الدنيا معدون إعداد أسباب – وفي الآخرة سنكون معدين إعدادا لغير أسباب. أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب، وحين تريد أن تأكل الشيء الفلاني، تقول لأهل البيت: اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده، إنما هناك في الآخرة بمجرد أن يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك، وهذا قانون جديد لا ارتباط له بقانون الدنيا، فلماذا لا يكون في تكويننا في الآخرة أيضا قانون يمكن به أن نرى الله وفي إطار "ليس كمثله شيء"؟