معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (96)

قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } ، والمراد بالبحر جميع المياه ، قال عمر رضي الله عنه : ( صيده ما اصطيد ، وطعامه ما رمي به ) . وعن ابن عباس وابن عمر ، وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتاً . وقال قوم : هو المالح منه ، وهو قول ابن جبير ، وعكرمة ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، والنخعي . وقال مجاهد : صيده طريه ، وطعامه مالحه ، ( متاعاً لكم ) أي : منفعة لكم ، ( وللسيارة ) يعني : المارة ، وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره . أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) فلا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر ، أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك . أما غير السمك فقسمان : قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ، فلا يحل أكله ، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح ، فاختلف القول فيه ، فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك ، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، وذهب قوم إلى أن ميت الماء كلها حلال ، لأن كلها سمك ، وإن اختلفت صورتها ، كالجريث يقال له حبة الماء ، وهو على شكل الحية ، وأكله مباح بالاتفاق ، وهو قول عمر ، وأبي بسر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وبه قال شريح ، والحسن ، وعطاء ، وهو قول مالك ، وظاهر مذهب الشافعي ، وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، ومالا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء ، والخنزير ، والحمار ، ونحوها . وقال الأوزاعي : كل شيء عيشه في الماء فهو حلال ، قيل : فالتمساح ؟ قال نعم ، وقال الشعبي : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ، وقال سفيان الثوري : أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس ، وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن صفوان بن سليمان ، عن سعيد ابن سلمة من آل بني الأزرق ، أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره ، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب في البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسدد ، أنا يحيى ، عن ابن جريج ، أخبرني عمر أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول : غزوت جيش الخبط ، وأمر أبو عبيدة ، فجعنا جوعاً شديدا ، فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله ، يقال له العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر ، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه ، فمر الراكب تحته . وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول : قال أبو عبيدة : كلوا ، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : كلوا رزقا أخرجه الله إليكم ، أطعمونا إن كان معكم ، فأتاه بعضهم بشيء منه فأكله .

قوله تعلى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون } ، صيد البحر حلال للمحرم ، كما هو حلال لغير المحرم . أما صيد البر فحرام على المحرم في الحرم ، والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله ، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ، ويحرم أخذه وقتله ، ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل ، كالمتولد بين الذئب والظبي ، لا يحل أكله ، ويجب بقتله الجزاء على المحرم ، لأن فيه جزاء من الصيد .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد لله بن عمر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ) .

وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقتل المحرم السبع العادي ) .

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس قتلهن حلال في الحرم : الحية ، والعقرب ، والحدأة ، والفأرة ، والكلب العقور ) .

وقال سفيان بن عيينة : الكلب العقور كل سبع يعقر ، ومثله عن مالك رحمه الله ، وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه كالفهد ، والنمر ، والخنزير ، ونحوها . إلا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا عليها الذئب ، فلم يوجبوا فيه الكفارة ، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه ، لأن الحديث يشتمل على أعيان : بعضها سباع ضارية ، وبعضها هوام قاتلة ، وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام ، وإنما هي حيوان مستخبث اللحم ، وتحريم الأكل يجمع الكل ، فاعتبره ورتب الحكم عليه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (96)

ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري ، استثنى تعالى الصيد البحري فقال : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } أي : أحل لكم -في حال إحرامكم- صيد البحر ، وهو الحي من حيواناته ، وطعامه ، وهو الميت منها ، فدل ذلك على حل ميتة البحر . { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أي : الفائدة في إباحته لكم أنه لأجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم . { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } ويؤخذ من لفظ " الصيد " أنه لا بد أن يكون وحشيا ، لأن الإنسي ليس بصيد . ومأكولا ، فإن غير المأكول لا يصاد ولا يطلق عليه اسم الصيد . { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : اتقوه بفعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، واستعينوا على تقواه بعلمكم أنكم إليه تحشرون . فيجازيكم ، هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل ، أم لم تقوموا بها فيعاقبكم ؟ .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (96)

ثم بين - سبحانه - ما أحله للمحرم وما حرمه عليه مما يتلعق بالصيد فقال - تعالى - :

{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ . . . }

المراد بصيد البحر : ما توالده ومثواه في الماء . والمراد بالبحر : ما يشمل جميع المياه العذبة والملحة سواء أكانت أنهارا أم غدرانا أم غيرهما .

والمراد بالصيد : الاصطياد أو ما يصاد منه .

والمراد بطعامه : ما يطعم من صيده . وهو عطف على { صيد } من عطف الخاص على العام ، ويكون الحل الواقع على الصيد المقصود به حل الانتفاع مطلقا ثم عطف عليه ما يفيد حل الأكل خاصة من باب إظهار الامتنان بالإِنعام بما هو قوام الحياة وهو الأكل ؛ فإن صيد البحر قد يقصد لمنافع أخرى غير الأكل ، كالانتفاع بزيت بعض أنواع المصيد منه .

ويرى ابن أبي ليلى أن المراد بالصيد والطعام المعنى المصدري ، وقدر مضافا في صيد الحبر ، وجعل الضمير في { طعامه } يعود إليه لا إلى البحر ، فيكون المعنى :

أحل لكم صيد حيوان البحر كما أحل لكم أن تأكلوا ما صدتموه منه . فهو يرى حل الأكل من جميع حيوانات البحر .

وقيل : بل المراد بصيد البحر ما أخذ بحيلة ، وبطعامه ما ألقاه البحر من حيواناته أو انحسر عنه الماء وأخذه الآخذ من غير حيلة أو معالجة .

وقوله : { متاعا } مفعول لأجله .

وقوله : { وللسيارة } متعلق بأحل . وهو جمع سيار باعتبار الجماعة .

والمراد بالسيارة : القوم المسافرون .

والمعنى : أحل الله لكم أيها المحرومون صيد البحر كما أحل لكم أكل ما يؤكل منه ، لأجل تمتعكم وانتفاعكم بذلك في حال إقامتكم وفي حال سفركم فأنتم تتمتعون بهذه النعم مقيمين ومسافرين ، وذلك يقتضي منكم الشكر لله لكي يزيديكم من هذه النعم .

قال ابن كثير ما ملخصه : وقد استدل الجمهور على حل ميتة البحر بهذه الآية وبما أخرجه الشيخان عن جابر قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل ، فأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة - قال : وأنا فيهم - قال فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد . قال : ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت كبير . فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة . فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم . هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله " .

وأخرج الإِمام أحمد وأهل السنن ومالك والشافعي عن أبي هريرة : " أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . فإن توضأنا به عطشنا أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " " .

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" أحلت لنا ميتتان ودمان ؛ فأما الميتتن : فالحوت والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " .

رواه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدراقطني والبيهقي وله شواهد .

وقد احتج بهذه الآية أيضاً من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من ذلك شيئا . وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها .

وقال أبو حنيفة : لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر لعموم قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } ثم أكد - سبحانه - حرمة صيد البر للمحرمين فقال : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } والمراد بصيد البر : ما كان توالده ومأواه في البر مما هو متوحش بأصل خلقته .

وبعض الفقهاء يرى أن التحريم هنا منصب على الفعل ، وعليه فالآية إنما تدل على حرمة الاصطياد فقط ، وأما الأكل منه - أي من المصيد - بأن يصيده حلال فلا تدل عليه الآية .

وبعضهم يرى أن التحريم هنا منصب على ذلك الصيد . وعليه فتكون الآية تقتضي تحريم جميع وجوه الانتفاع بالصيد إلا ما يخرجه الدليل .

أو يكون الصيد بمعنى المصيد وهو الأظهر لإِجماع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ، ولا اصطياده ، ولا ستحدث ملكه بوجه من الوجوه .

وقد اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد ، فقال مالك والشافعي وأحمد . إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله ، لما رواه الترمذي والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لصيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم " .

وقال أبو حنيفة : أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذ اصطاده الحلال - سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله - تعالى - { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاده غيرهم .

وروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم كل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد . لحديث الصعب بن جثامة الليثي ، " أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواه فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال : " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " خرجه الأئمة واللفظ لمالك .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالدعوة إلى خشيته وتقواه وبالتذكير بالحشر وما فيه من حساب وعقاب فقال : { واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .

أي : واتقوا الله في كل أحوالكم ، وقفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها ، واعلموا أن مرجعكم وحشركم إليه وحده ، وسيجازيكم على أعمالكم التي عملتموها في دنياكم .

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أحلت للمحرم صيد البحر - فضلا من الله ورحمة - ؛ لأن البحر بعيد عن الحرم ، والمحرم قد يحرم في منطقة قد تكون فيها بحار فتحريم صيد البحر عليه قد يؤدي إلى تعبه وإجهاده دون أن تكون هناك فائدة تعود على سكان الحرم .

أما الحكمة من وراء تحريم الصيد البري على المحرمين فمنها : أن البيت الحرام بواد غير زرع ، وسكان هذه المنطقة من وسائل حياتهم الصيد ، فلو أبيح الصيد للمحرمين القادمين لزيارة البيت من كل فج عميق . . لأدى ذلك إلى قتل الكثير من الصيد البري الذي هو مصدر انتفاع للقاطنين في تلك المناطق . وفضلا عن كل ذلك ففي تحريم الصيد البري الذي يعيش في مناطق الحرم ، تكريم لهذه المناطق ، وتشريف لها ، وإعلاء لشأنها ومكانتها . فهي أماكن الأمان والاطمئنان والسلام . لا للبشر وحدهم ، بل للبشر ولغير البشر من مخلوقات الله التي نهت شريعته عن التعرض لها بسوء .

وبعد هذا النهي الشديد للمحرمين عن صيد البر وهم على هذه الحالة بين - سبحانه - المنزلة السامية للكعبة التي هي أشرف مكان ، وأصلحه لأمان الناس واطمئنانهم كما بين - سبحانه - مكانة الأشهر الحرم وما يقدم فيها من خيرات لسكان الحرم - فقال - تعالى - :

{ جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً . . . }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (96)

استئناف بياني نشأ عن قوله : { يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] فإنّه اقتضى تحريم قتل الصيد على المحرم وجعل جزاء فعله هدي مثل ما قتَل من النعم ، فكان السامع بحيث يسأل عن صيد البحر لأنّ أخذه لا يسمّى في العرف قتلاً ، وليس لما يصاد منه مثل من النعم ولكنّه قد يشكّ لعلّ الله أراد القتل بمعنى التسبّب في الموت ، وأراد بالمثل من النعم المقاربَ في الحجم والمقدار ، فبيّن الله للناس حكم صيد البحر وأبقاه على الإباحة ، لأنّ صيد البحر ليس من حيوان الحرم ، إذ ليس في شيء من أرض الحرم بحر . وقد بينّا عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] أنّ أصل الحكمة في حرمة الصيد على المحرم هي حفظ حرمة الكعبة وحرمها .

ومعنى { أحلّ لكم صيد البحر } إبقاء حلّيّته لأنّه حلال من قبلِ الإحرام . والخطاب في { لكم } للذين آمنوا . والصيد هنا بمعنى المصيد ليجري اللفظ على سنن واحد في مواقعه في هذه الآيات ، أي أحلّ لكم قتله ، أي إمساكه من البحر .

والبحر يشمل الأنهار والأودية لأنّ جميعها يسمّى بحراً في لسان العرب . وقد قال الله تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات } الآية . وليس العذب إلاّ الأنهار كدجلة والفرات . وصيد البحر : كلّ دوابّ الماء التي تصاد فيه ، فيكون إخراجها منه سبب موتها قريباً أو بعيداً . فأمّا ما يعيش في البرّ وفي الماء فليس من صيد البحر كالضفدع والسلحفاة ، ولا خلاف في هذا . أمّا الخلاف فيما يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل منه ، عند من يرى أنّ منه ما لا يؤكل ، فليس هذا موضع ذكره ، لأنّ الآية ليست بمثبتة لتحليل أكل صيد البحر ولكنّها منّبهة على عدم تحريمه في حال الإحرام .

وقوله : { وطعامه } عطف على { صيد البحر } . والضمير عائد إلى { البحر } ، أي وطعام البحر ، وعطفه اقتضى مغايرته للصيد . والمعنى : والتقاط طعامه أو وإمساكُ طعامه . وقد اختلف في المراد من « طعامه » . والذي روي عن جلّة الصحابة رضي الله عنهم : أنّ طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة إذا لم يكن سبب موته إمساك الصائد له . ومن العلماء من نقل عنه في تفسير طعام البحر غير هذا ممّا لا يلائم سياق الآية . وهؤلاء هم الذين حرّموا أكل ما يخرجه البحر ميّتاً ، ويردّ قولهم ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في البحر : " هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته " وحديث جابر في الحوت المسمّى العنبر ، حين وجدوه ميّتاً ، وهم في غزوة ، وأكلوا منه ، وأخبروا رسول الله ، وأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وانتصب { متاعاً } على الحال .

والمتاع : ما يتمتّع به . والتمتّع : انتفاع بما يلذّ ويسرّ . والخطاب في قوله : { متاعاً لكم } للمخاطبين بقوله : { أحل لكم صيد البحر } باعتبار كونهم متناولين الصيد ، أي متاعاً للصائدين وللسيّارة .

والسيّارة : الجماعة السائرة في الأرض للسفر والتجارة ، مؤنث سيّار ، والتأنيث باعتبار الجماعة . قال تعالى : { وجاءت سيّارة } [ يوسف : 19 ] . والمعنى أحلّ لكم صيد البحر تتمتّعون بأكله ويتمتّع به المسافرون ، أي تبيعونه لمن يتّجرون ويجلبونه إلى الأمصار .

وقوله : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } زيادة تأكيد لتحريم الصيد ، تصريحاً بمفهوم قوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] ، ولبيان أنّ مدّة التحريم مدّة كونهم حُرُماً ، أي محرمين أو مارّين بحرم مكة . وهذا إيماء لتقليل مدّة التحريم استئناساً بتخفيف ، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدّة ، ولو شاء الله لحرّمه أبداً . وفي « الموطأ » : أنّ عائشة قالت لعروة بن الزبير : يا بن أختي إنّما هي عشر ليال ( أي مدّة الإحرام ) فإن تخلَّجَ في نفسك شيء فدعه . تعني أكل لحم الصيد .

وذيّل ذلك بقوله : { واتّقوا الله الذي إليه تحشرون } . وفي إجراء الوصف بالموصول وتلك الصلة تذكير بأنّ المرجع إلى الله ليعدّ الناس ما استطاعوا من الطاعة لذلك اللقاء .

والحشر : جمع الناس في مكان . والصيد مراد به المصيد ، كما تقدّم .

والتحريم متعلّق بقتله لقوله قبله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] فلا يقتضي قوله : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } تحريم أكل صيد البرّ على المحرم إذا اشتراه من بائع أو ناوله رجل حلال إيّاه ، لأنّه قد علم أنّ التحريم متعلّق بمباشرة المحرم قتله في حال الإصابة . وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمار الذي صاده أبو قتادة ، كما في حديث « الموطأ » عن زيد بن أسلم . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقسمة الحمار الذي صاده زيد البهزي بين الرفاق وهم محرمون . وعلى ذلك مضى عمل الصحابة ، وهو قول .

وأمّا ما صيد لأجل المحرم فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ردّ على الصعب بن جَثّامة حماراً وحشياً أهداه إليه وقال له : " إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حُرُم " وقد اختلف الفقهاء في محل هذا الامتناع . فقيل : يحرم أن يأكله مَن صِيدَ لأجله لا غير . وهذا قول عثمان بن عفّان ، وجماعة من فقهاء المدينة ، ورواية عن مالك ، وهو الأظهر ، لأنّ الظاهر أنّ الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّما لم نردّه عليك إلاّ أنّا حرم " أنّه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، لقوله « لم نردّه » ، وإنّما ردّه هو وحده . وقيل : يحرم على المحرم أكل ما صيد لمحرم غيره ، وهو قول بعض أهل المدينة ، وهو المشهور عن مالك . وكأنّ مستندهم في ذلك أنّه الاحتياط وقيل : لا يأكل المحرم صيداً صِيد في مدّة إحرامه ويأكل ما صِيد قبل ذلك ، ونسب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس ، وقيل : يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً ، وإنّما حرّم الله قتل الصيد ، وهو قول أبي حنيفة . والحاصل أنّ التنزّه عن أكل الصيد الذي صيد لأجل المحرم ثابت في السنّة بحديث الصعب بن جَثَّامة ، وهو محتمل كما علمت . والأصل في الامتناع الحِرمة لأنّه ، لو أراد التنزّه لقال : أمّا أنا فلا آكله ، كما قال في حديث خالد بن الوليد في الضبّ .