معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

قوله تعالى : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } . واختلفوا في هذا المؤمن : قال مقاتل و السدي : كان قبطياً ابن عم فرعون وهو الذي حكى الله عنه فقال : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } ( القصص-20 ) ، وقال قوم : كان إسرائيلياً ، ومجاز الآية : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون ، وكان اسمه حزبيل عند ابن عباس ، وأكثر العلماء . وقال ابن إسحاق : كان اسمه جبريل ، وقيل : كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون حبيباً . { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } ، لأن يقول ربي الله ، { وقد جاءكم بالبينات من ربكم } ، أي : بما يدل على صدقه ، { وإن يك كاذباً فعليه كذبه } ، لا يضركم ذلك ، { وإن يك صادقاً } ، فكذبتموه ، وهو صادق { يصبكم بعض الذي يعدكم } ، قال أبو عبيد : المراد بالبعض الكل ، أي : إن قتلتموه وهو صادق أصابكم ما وعدكم من العذاب . قال الليث : ( بعض ) ههنا صلة ، يريد : يصبكم الذي يعدكم . وقال أهل المعاني : هذا على الظاهر في الحجاج كأنه قال : أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم ، فذكر البعض ليوجب الكل ، { إن الله لا يهدي } ، إلى دينه ، { من هو مسرف } مشرك ، { كذاب } على الله .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه ، فخنفه به خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : ( أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم ، مقبحًا فعل قومه ، وشناعة ما عزموا عليه : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } أي : كيف تستحلون قتله ، وهذا ذنبه وجرمه ، أنه يقول ربي الله ، ولم يكن أيضا قولاً مجردًا عن البينات ، ولهذا قال : { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير ، أي : فهذا لا يوجب قتله .

فهلا أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق ، وقابلتم البرهان ببرهان يرده ، ثم بعد ذلك نظرتم : هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا ؟ فأما وقد ظهرت حجته ، واستعلى برهانه ، فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي .

ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل ، بأي حالة قدرت ، فقال : { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ }

أي : موسى بين أمرين ، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها ، فإن كان كاذبًا فكذبه عليه ، وضرره مختص به ، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه ، وإن كان صادقًا وقد جاءكم بالبينات ، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة ، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وهو عذاب الدنيا .

وهذا من حسن عقله ، ولطف دفعه عن موسى ، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم ، وجعل الأمر دائرًا بين تينك الحالتين ، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم .

ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه - إلى أمر أعلى من ذلك ، وبيان قرب موسى من الحق فقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } أي : متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل . { كَذَّابٌ } بنسبته ما أسرف فيه إلى الله ، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب ، لا في مدلوله ولا في دليله ، ولا يوفق للصراط المستقيم ، أي : وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق ، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية ، فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفًا ولا كاذبًا ، وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

وخلا هذا الوعيد والتهديد من فرعون وملئه لموسى - عليه السلام - ، قيض الله - تعالى - لموسى رجلا مؤمنا من آل فرعون كان يخفى إيمانه . هذا الرجل أخذ يدافع عن موسى دفاعا حكيما مؤثرا ، يحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى ، والإِرشاد تارة والتأنيب أخرى . . ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :

{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ . . . } .

قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن موسى - عليه السلام - أنه ما زاد فى دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله ، بين أنه - تعالى - قيض إنسانا أجنبيا غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه ، وبالغ فى تسكين تلك الفتنة ، واجتهد فى إزالة ذلك الشر .

ثم قال - رحمه الله - يقول مصنف هذا الكتاب : ولقد جريت فى أحوال نفسى أنه كلما قصدنى شرير بشر ولم أتعرض له ، وأكتفى بتفويض ذلك الأمر إلى الله ، فإنه - سبحانه - يقيض أقواما لا أعرفهم ألبتة . يبالغون فى دفع ذلك الشر . .

وظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا الرجل المؤمن كان من حاشية فرعون بدليل قوله - تعالى - : { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } ولم يكن من بنى إسرائيل .

وقد رجح ابن جرير - رحمه الله - ذلك فقال : وأولى القولين فى ذلك بالصواب عندى : القول الذى قاله السدى من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون ، ولذا فقد أصغى لكلامه واستمع منه ما قاله ، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله . . ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له ولملئه بالعقوبة على قوله ، لأنه لم يكن ستنصح بنى إسرائيل لاعتداده إياهم أعداء له . . ولكنه لما كان من ملأ قومه ، استمع إليه ، وكف فرعون عما كان قد هم به من قتل موسى . .

قالوا : وهذا الرجل المؤمن هو الذى نصح موسى - عليه السلام - بقوله : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين } وكان اسمه " حزقيل " او " حبيب " .

أى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون وحاشيته ، وكان يكتم إيمانه عنهم ، حتى لا يصيبه أذى منهم ، فعندما سمع فرعون يقول : { ذروني أَقْتُلْ موسى } قال لهم : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } .

أى : أتقتلون رجلا لأنه يقول ربى الله وحده ، وقد جاءكم بالحجج البينات ، وبالمعجزات الواضحة من عند ربكم ، كدليل على صدقه فيما يبلغه عنه .

فقوله : { أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله } فى موضع المفعول لأجله . أى : أتقتلونه من أجل قوله هذا . وجملة { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } حالية من فاعل يقول وهو موسى - عليه السلام - .

والمقصود بهذا الاستفهام : الإِنكار عليهم والتبكيت لهم ، حيث قصدوا قتل رجل كل ذنبه أنه عبد الله - تعالى - وحده وقد جاءهم بالمعجزات الواضحات الدالة على صحة فعله وقوله .

قال الإِمام ابن كثير : وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون { ذروني أَقْتُلْ موسى }

فأخذت الرجل غضبه لله - تعالى - و " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " اللهم إلا ما رواه البخارى فى صحيحه حيث قال :

حدثنا على بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعى ، حدثنى عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرنى بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه فى عنقه ، فخنقه خنقا شديدا . فأقبل أبو بكر - رضى الله عنه - فأخذ بمنكبه ودفع عن النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " .

وقال القرطبى : وعن على - رضى الله عنه - قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث : فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل هذا يجؤه - أى يضربه - ، وهذا يُتَلْتِلهُ - أى : يحركه تحريكا شديدا - فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ هذا ويتلتل ذا ، ويقول بأعلى صوته : ويلكم : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ، والله إنه لرسول الله ، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ .

ثم يحكى القرآن أن ذلك الرجل المؤمن ، لم يكتف بالإِنكار على قومه قصدهم موسى بالقتل بل أخذ فى محاولة إقناعهم بالعدول عن هذا القصد بشتى الأساليب والحجج فقال : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ . . } .

أى : أنه قال لهم : إن كان موسى - على سبيل الفرض - كاذبا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله ، فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذى يعدكم به من سوء عاقبة مخالفة ما أتاكم به من عند ربه . .

فأنت ترى أن الرجل كان فى نهاية الحكمة والإِنصاف وحسن المنطق ، فى مخاطبته لقومه ، حيث بين لهم أن الأمر لا يخرج عن فرضين ، وكلاهما لا يوجب قصد موسى - عليه السلام - بالقتل .

ورحم الله صاحب الكشاف : فقد أجاد عند تفسير لهذه الآية فقال ما ملخصه : وقوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله . . . } هذا إنكار عظيم منه ، وتبكيت شديد لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التى هى قتل نفس محرمة ، وما لكم علة قط فى ارتكابها إلا كلمة الحق التى نطق بها وهى قوله { رَبِّيَ الله } . .

ثم أخذ فى الاحتجاج عليهم على طريقة التقسيم فقال : لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن يك كاذبا فعليه يعود كذبه ولا يتخطاه ضرره ، وإن يك صادقا يصبكم بعض ما يعدكم به إن تعرضتم له .

فإن قلت : لم قال : { بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } وهو - أى موسى - نبى صادق ، لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه ؟

قلت : لأنه احتاج فى مقاولة خصوم موسى ومنا كريه ، إلى أن يلاوصهم - أى يحايلهم - ويداريهم ، ويسلك معهم طريق الإِنصاف فى القول ويأتيهم من جهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل فى تصديقهم له وقبولهم منه ، فقال { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } وهو كلام المنصف فى مقاله ، غير المشتط فيه ، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه ، وذلك أنه حين فرضه صادقا ، فقد أثبت أنه صادق فى جميع ما يعد ، ولكنه أردفه بقوله : { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } ليهضمه بعض حقه فى ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا ، فضلا عن أن يتعصب له ، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل .

ثم أرشد الرجل المؤمن الحصيف قومه إلى سنة من سنن الله التى لا تتغير فقال : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } .

أى : إن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أنه - سبحانه - لا يهدى إلى الحق والصواب ، من كان مسرفا فى أموره ، متجاوزا الحدود التى شرعها الله - تعالى - ومن كان كذابا فى إخباره عن الله - تعالى - ، ولو كان موسى مسرفا أو كذابا ، لما أيده الله - تعالى - بالمعجزات الباهرة . وبالحجج الساطعة الدالة على صدقه .

فالجملة الكريمة إرشاد لهم عن طريق خفى إلى صدق موسى فيما يبلغه عن ربه ، وتعريض بما عليه فرعون من ظلم وكذب .

قال الجمل فى حاشيته : فالجملة الكريمة كلام ذو وجهين نظرا لموسى وفرعون .

الوجه الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى ، والمعننى : إن الله هدى موسى إلى الإِتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا ولا كذابا .

الوجه الثانى : أن يكون المراد أن فرعون مسرف فى عزمه على قتل موسى . وكاذب فى ادعائه الألوهية ، والله لا يهدى من كان كذلك . . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

{ وقال رجل مؤمن من آل فرعون } من أقاربه . وقيل { من } متعلق بقوله : { يكتم إيمانه } والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم . { أتقتلون رجلا } أتقصدون قتله . { أن يقول } لأن يقول ، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره . { ربي الله } وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد . { وقد جاءكم بالبينات } المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات . { من ربكم } أضافه إليهم بعد ذكر البينات احتجاجا عليهم واستدراجا لهم إلى الاعتراف به ، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال : { وإن يك كاذبا فعليه كذبه } لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله . { وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم } فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذبا أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده ، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم وتفسير ال{ بعض } بالكل كقول لبيد :

تراك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

مردود لأنه أراد بال { بعض } نفسه . { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } احتجاج ثالث ذو وجهين :

أحدهما : أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات .

وثانيهما : أن من خذله الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله . ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرض به لفرعون بأنه { مسرف كذاب } لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

ثم حكى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون وشرفه بالذكر ، وخلد ثناءه في الأمم ، سمعت أبي رضي الله عنه يقول : سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة ، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد [ عدي بن زيد ] : [ الطويل ]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه . . . فكل قرين بالمقارن مقتد{[9985]}

ماذا تريدون من قوم قرنهم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه ؟ وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره ، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه جرد سيفه بمكة وقال : والله لا عبد الله سراً بعد اليوم .

وقرأت فرقة : «رجْل » بسكون الجيم ، كعضد وعضد ، وسبع وسبع ، وقراءة الجمهور بضم الجيم واختلف الناس في هذا الرجل ، فقال السدي وغيره : كان من آل فرعون وأهله ، وكان يكتم إيمانه ، ف { يكتم } على هذا في موضع الصفة دون تقديم وتأخير ، وقال مقاتل : كان ابن عم فرعون . وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون . ( وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون ) . بل من بني إسرائيل ، وإنما المعنى : وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، والأول أصح ، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم بمثل هذا عند فرعون ، ويحتمل أن يكون من غير القبط ، ويقال فيه من آل فرعون ، إذ كان في الظاهر على دينه ومن أتباعه ، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ]

فلا تبك مْيتاً بعد مْيت أجنه . . . علي وعباس وآل أبي بكر{[9986]}

يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة أبي بكر الصديق .

وقوله : { أن يقول } مفعول من أجله ، أي لأجل أن يقول : وجلح{[9987]} معهم هذا المؤمن في هذه المقالات ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب ، وأراهم أنها نصيحة ، وحذفت النون من : { يك } تخفيفاً على ما قال سيبويه وتشبيهاً بالنون في تفعلون وتفعلان على مذهب المبرد ، وتشبيهاً بحرف العلة الياء والواو على مذهب أبي علي الفارسي وقال : كأن الجازم دخل على «يكن » وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من يقضي والواو من يدعو ، لأن خفتها على اللسان سواء .

واختلف المتأولون في قوله : { يصبكم بعض الذي يعدكم } فقال أبو عبيدة وغيره : { بعض } بمعنى كل ، وأنشدوا قول القطامي عمرو بن شييم : [ البسيط ]

قد يدرك المتأني بعض حاجته . . . وقد يكون مع المستعجل الزلل{[9988]}

وقال الزجاج : هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر ، وليس فيه نفي إضافة الكل . وقالت فرقة ، أراد : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كاف في هلاككم ، ويظهر إلي أن المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض ما يعد ، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم وإن كفروا بالعذاب فإن كان صادقاً فالعذاب بعض ما وعد به . وقالت فرقة : أراد ببعض ما يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض عذاب الآخرة ، أي وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي وفي البعض كفاية في الإهلاك ، ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله : { إن الله لايهدي من هو مسرف كذاب } قال السدي : معناه : مسرف بالقتل . وقال قتادة : مسرف بالكفر .


[9985]:يستشهد ابن عطية بهذا البيت على أن الصحابة كان لهم من الفضل أنهم عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلموا منه، وكانوا قرناء له، والمرء يعرف بقرينه. والقرين في اللغة هو صاحبك الذي يقارنك، والجمع قرناء.
[9986]:وهذا شاهد على أنه يقال للمرء: (إنه من آل فلان) إذا كان على دينه ومن أتباعه، لأن الشاعر يقول: وآل أبي بكر ويعني بذلك كل من كان على دين أبي بكر رضي الله عنه، وهو في البيت يتعزى عن فقد أخيه بأن هناك من هو أفضل منه وأعظم، وقد مات، فلا يحق لنا أن نبكي عليه بعد أن مات هذا الإنسان العظيم الذي تولى دفنه علي بن أبي طالب والعباس وجميع المؤمنين الذين كانوا في طاعة الصديق رضي الله عنه.
[9987]:جلح في الأمر: أقدم ومضى.
[9988]:القطامي اسمه عمير بن شييم، وهو من بني تغلب، والبيت مما يتمثل به من شعره، وهو في البحر المحيط، وفي القرطبي وفي اللسان، وقبله: والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل والمتأني في الأمر: المترفق فيه المتمهل، والزلل: الخطأ والسقوط. وقد نقل في اللسان عن أبي إسحق قوله: (من لطيف المسائل أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وعد وعدا وقع الوعد بأسره ولم يقع بعضه، فمن أين جاز أن يقول: {بعض الذي يعدكم} وهذا باب من النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام حجته بأسير ما في الأمر، وليس في هذا معنى الكل، وإنما ذكر البعض ليوجب له الكل، لأن البعض هو الكل، ومثل هذا قول الشاعر: (قد يدرك المتأني... البيت)، لأن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه. فكأن مؤمن آل فرعون قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

عطف قول هذا الرجل يقتضي أنه قال قوله هذا في غير مجلس شورى فرعون ، لأنه لو كان قوله جارياً مجرى المحاورة مع فرعون في مجلس استشارته ، أو كان أجاب به عن قول فرعون : { ذَرُوني أقتُل موسى } [ غافر : 26 ] لكانت حكاية قوله بدون عطف على طريقة المُحاورات . والذي يظهر أن الله ألهم هذا الرجل بأن يقول مقالته إلهاماً كان أولَ مظهر من تحقيق الله لاستعاذة موسى بالله ، فلما شاع توعد فرعون بقتل موسى عليه السلام جاء هذا الرجل إلى فرعون ناصحاً ولم يكن يتهمه فرعون لأنه من آله .

وخطابه بقوله : { أتقتلون } موجَّه إلى فرعون لأن فرعون هو الذي يسند إليه القتل لأنه الآمر به ، ولحكاية كلام فرعون عقب كلام مؤمن آل فرعون بدون عطف بالواو في قوله : { قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى } [ غافر : 29 ] .

ووصفُه بأنه من آل فرعون صريح في أنه من القبط ولم يكن من بني إسرائيل خلافاً لبعض المفسرين ألا ترى إلى قوله تعالى بعده : { يا قوم لكم المُلْك اليومَ ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا } [ غافر : 29 ] فإن بني إسرائيل لم يكن لهم مُلك هنالك .

والأظهر أنه كان من قرابة فرعون وخاصته لما يقتضيه لفظ آل من ذلك حقيقةً أو مجازاً . والمراد أنه مؤمن بالله ومؤمن بصدق موسى ، وما كان إيمانه هذا إلا لأنه كان رجلاً صالحاً اهتدى إلى توحيد الله إما بالنظر في الأدلة فصدَّق موسى عندما سمع دعوته كما اهتدى أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى تصديق النبي في حين سماع دعوته فقال له : صَدَقتَ . وكان كتمه الإِيمان متجدداً مستمراً تقيةً من فرعون وقومه إذ علم أن إظهاره الإِيمان يُضره ولا ينفع غيره كما كان ( سقراط ) يكتم إيمانه بالله في بلاد اليونان خشية أن يقتلوه انتصاراً لآلهتهم .

وأراد بقوله : { أتَقْتُلُونَ رَجُلاً } إلى آخره أن يسعى لحفظ موسى من القتل بفتح باب المجادلة في شأنه لتشكيك فرعون في تكذيبه بموسى ، وهذا الرجل هو غير الرجل المذكور في سورة [ القصص : 20 ] في قوله تعالى : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } فإن تلك القصة كانت قُبَيْل خروج موسى من مصر ، وهذه القصة في مبدأ دخوله مصر . ولم يوصف هنالك بأنه مؤمن ولا بأنه من آل فرعون بل كان من بني إسرائيل كما هو صريح سفر الخروج . والظاهر أن الرجل المذكور هنا كان رجلاً صالحاً نظَّاراً في أدلة التوحيد ولم يستقر الإِيمان في قلبه على وجهه إلا بعد أن سمع دعوة موسى ، وإن الله يقيض لعباده الصالحين حُماة عند الشدائد .

قيل اسم هذا الرجل حبيب النجّار وقيل سمعان ، وقد تقدم في سورة ( يس ) أن حبيباً النجار من رسل عيسى عليه السلام .

وقصة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون غير مذكورة في « التوراة » بالصريح ولكنها مذكورة إجمالاً في الفقرة السابعة من الإصحاح العاشر « فقال عبيد فرعون إلى متَى يكون لنا هذا ( أي موسى ) فخًّا أَطْلِق الرجال ليعبدوا الرب إلههم » .

والاستفهام في { أتقتلون } استفهام إنكار ، أي يقبح بكم أن تقتلوا نفساً لأنه يقول ربي الله ، أي ولم يجبركم على أن تؤمنوا به ولكنه قال لكم قولاً فاقبلوه أو ارفضوه ، فهذا محمل قوله : { أنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله } وهو الذي يمكن الجمع بينه وبين كون هذا الرجل يكتم إيمانه .

و { أنَّ يَقُولَ } . مجرور بلام التعليل المقدرة لأنها تحذف مع ( أَن ) كثيراً . وذكر اسممِ الله لأنه الذي ذكره موسى ولم يكن من أسماء آلهة القبط .

وأما قوله : { وقد جاءَكُم بالبينات من رَبِّكُم } فهو ارتقاء في الحِجاج بعد أن استأنس في خطاب قومه بالكلام الموجَّه فارتقى إلى التصريح بتصديق موسى بعلة أنه جاء بالبينات ، أي الحجج الواضحة بصدقه ، وإلى التصريح بأن الذي سماه الله في قوله : { أن يقول ربي الله } هو رب المخاطبين فقال : { من ربكم } . فجملة { وقد جاءكم بالبينات من ربكم } في موضع الحال من قوله : { رجلاً } والباء في { بالبينات } للمصاحبة .

وقوله : { وإن يَكُ كاذبا فَعلَيهِ كَذِبُهُ } رجوع إلى ضرب من إيهام الشك في صدق موسى ليكون كلامه مشتملاً على احتمالَيْ تصديق وتكذيب يتداولهما في كلامه فلا يؤخذ عليه أنه مصدق لموسى بل يُخيل إليهم أنه في حالة نظر وتأمل ليسوق فرعون وملأَه إلى أدلة صدق موسى بوجه لا يثير نفورهم ، فالجملة عطف على جملة { وقد جاءكم بالبينات } فتكون حالاً .

وقَدم احتمال كذبه على احتمال صدقه زيادةً في التباعد عن ظنهم به الانتصار لموسى فأراد أن يَظهَر في مظهر المهتَم بأمر قومه ابتداء .

ومعنى : { وإن يَكُ كَاذِباً فَعلَيه كَذِبُهُ } استنزالهم للنظر ، أي فعليكم بالنظر في آياته ولا تعجلوا بقتله ولا باتباعه فإن تبين لكم كذبه فيما تحداكم به وما أنذركم به من مصائب فلم يقع شيء من ذلك لم يضركم ذلك شيئاً وعاد كذبه عليه بأن يوسم بالكاذب ، وإن تبين لكم صدقه يصبكم بعضُ ما تَوَعَّدكم به ، أي تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبَعوه ، وهذا وجه التعبير ب { بعض } دون أن يقول : يصبكم الذي يعدكم به . والمراد بالوعْد هنا الوعد بالسوء وهو المسمى بالوعيد . أي فإن استمررتم على العناد يصبكم جميع ما توعَّدكم به بطريق الأوْلى .

وقد شابَه مقامُ أبي بكر الصديققِ مقامَ مؤمن آل فرعون إذ آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع دعوته ولم يكن من آله ، ويومَ جاء عقبة بن أبي مُعيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( والنبي صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ) يخنقه بثوبه فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكب عقبة ودفَعه وقال : { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } .

قال علي بن أبي طالب : « والله لَيَومُ أبي بكر خيرٌ من مؤمن آل فرعون ، إنَّ مؤمن آل فرعون رجل يكتم إيمانه وإن أبا بكر كان يُظهر إيمانه وبذل ماله ودمه »

وأقول : كان أبو بكر أقوى يقيناً من مؤمن آل فرعون لأن مؤمن آل فرعون كتم إيمانه وأبو بكر أظهر إيمانه .

وجملة { إنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن هُو مُسْرفٌ كَذَّابٌ } يجوز أنها من قول مؤمن آل فرعون ، فالمقصود منها تعليل قوله : { وَإن يَكُ كاذبا فعليه كَذِبُهُ وإن يَكُ صادقاً يُصِبكم بعْض الذي يَعِدُكُم } أي لأن الله لا يقره على كذبه فإن كان كاذباً على الله فلا يلبث أن يفتضح أمره أو يهلكه ، كما قال تعالى : { ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [ الحاقة : 44 46 ] لأن الله لا يمهل الكاذب عليه ، ولأنه إذا جاءكم بخوارق العادات فقد تبين صدقه لأن الله لا يَخرق العادة بعد تحدي المتحدّي بها إلاّ ليجعلها أمارة على أنه مرسَل منه لأن تصديق الكاذب محال على الله تعالى .

ومعنى : { يصيبكم بعض الذي يعدكم } أي مما تَوعدكم بوقوعه في الدنيا ، أو في الآخرة وكيف إذا كانت البينة نفسُها مصائب تحلّ بهم مثل الطوفان والجراد وبقية التسع الآيات .

والمسرف : متجاوز المعروف في شيء ، فالمراد هنا مسرف في الكذب لأن أعظم الكذب أن يكون على الله ، قال تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] .

وإذا كان المراد الإِسراف في الكذب تعين أن قوله : { كذاب } عطف بيان وليس خبراً ثانياً إذ ليس ثمة إسراف هنا غير إسراف الكذب ، وفي هذا اعتراف من هذا المؤمن بالله الذي أنكره فرعون ، رمَاه بين ظهرانَيْهم . ويجوز أن تكون جملة { إنَّ الله لاَ يَهْدِي } إلى آخرها جملة معترضة بين كلامي مؤمن آل فرعون ليست من حكاية كلامه وإنما هي قول من جانب الله في قُرآنه يقصد منها تزكية هذا الرجل المؤمن إذ هداه الله للحق ، وأنه تقيّ صادق ، فيكون نفي الهداية عن المسرف الكذاب كناية عن تقوى هذا الرجل وصدقه لأنه نطق عن هدىً والله لا يعطي الهدى من هو مسرف كذاب .