البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، قيل : كان قبطياً ابن عم فرعون ، وكان يجري مجرى ولي العهد ، ومجرى صاحب الشرطة .

وقيل : كان قبطياً ليس من قرابته .

وقيل : قيل فيه من آل فرعون ، لأنه كان في الظاهر على دينه ودين أتباعه .

وقيل : كان إسرائيلياً وليس من آل فرعون ، وجعل آل فرعون متعلقاً بقوله : { يكتم إيمانه } ، لا في موضع الصفة لرجل ، كما يدل عليه الظاهر ، وهذا فيه بعد ، إذ لم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتجاسر عند فرعون بمثل ما تكلم به هذا الرجل .

وقد رد قول من علق من آل فرعون بيكتم ، فإنه لا يقال : كتمت من فلان كذا ، إنما يقال : كتمت فلاناً كذا ، قال تعالى : { ولا يكتمون الله حديثاً } وقال الشاعر :

كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً *** وهمين هماً مستكناً وظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها *** وورد هموم لن يجدن مصادرا

أي : كتمتك أحاديث نفس وهمين .

قيل : واسمه سمعان .

وقيل : حبيب .

وقيل : حزقيل .

وقرأ الجمهور : { رجل } بضم الجيم .

وقرأ عيسى ، وعبد الوارث ، وعبيد بن عقيل ، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو : بسكون ، وهي لغة تميم ونجد .

{ أتقتلون رجلاً أن يقول } : أي لأن يقول { ربي الله } ، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها ، وهي قوله : { ربي الله } ، مع أنه { قد جاءكم بالبينات من ربكم } : أي من عند من نسب إليه الربوبية ، وهو ربكم لا ربه وحده ؟ وهذا استدراج إلى الاعتراف .

وقال الزمخشري : ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً ، أي وقت أن يقول ، والمعنى : أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره ؟ انتهى .

وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز ، تقول : جئت صياح الديك ، أي وقت صياح الديك ، ولا أجيء أن يصيح الديك ، نص على ذلك النحاة ، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحاً به لا مقدراً ، وأن يقول ليس مصدراً مصرحاً به .

{ بالبينات } : بالدلائل على التوحيد ، وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورته له في سؤاله عن ربه تعالى .

ولما صرح بالإنكار عليهم ، غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق ، وأدّى ذلك في صورة احتمال ونصيحة ، وبدأ في التقسيم بقوله : { وإن يك كاذباً فعليه كذبه } ، مداراة منه وسالكاً طريق الإنصاف في القول ، وخوفاً إذا أنك عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره ، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره ، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم .

ومعنى { فعليه كذبه } : أي لا يتخطاه ضرره .

{ وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم } ، وهو يعتقد أنه نبي صادق قطعاً ، لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأسرها في الأمر ، وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم .

وقالت فرقة : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كان في هلاكهم ، ويكون المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض مما يعد ، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعمة ، وإن كفروا بالنقمة .

وقالت فرقة : بعض الذي يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض عذاب الآخرة ، ويصيرون بعد ذلك إلى النار .

وقال أبو عبيدة وغيره : بعض بمعنى كل ، وأنشدوا عمرو بن شسيم القطامي :

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقال الزمخشري : وذلك أنه حين فرض صادقاً ، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد ، ولكنه أردفه { يصبكم بعض الذين يعدكم } ، ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه وافياً فضلاً أن يتعصب له .

فإن قلت : وعن أبي عبيدة أنه قسم البعض بالكل ، وأنشد بيت لبيد وهو :

تراك أمكنة إذا لم أرضها *** ويريك من بعض النفوس حمامها

قلت : إن صحت الرواية عنه فقد حق في قول المازني في مسألة العافي كان أحفى من أن يفقه ما أقول له .

انتهى ، ويعني أن أبا عبيدة خطأه الناس في اعتقاده أن بعضاً يكون بمعنى كل ، وأنشدوا أيضاً في كون بعض بمعنى كل قول الشاعر :

إن الأمور إذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ في بعضها خللا

أي : إذا رأى الأحداث ، ولذلك قال دبرها ولم يقل دبروها ، راعي المضاف المحذوف .

{ إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } فيه : إشارة إلى علو شأن موسى ، عليه السلام ، وأن من اصطفاه الله للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب ، وفيه تعريض بفرعون ، إذ هو غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين ، وفي غاية الكذب ، إذ ادّعى الإلهية والربوبية ، ومن هذا شأنه لا يهديه الله .

وفي الحديث : " الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس ، ومؤمن آل فرعون ، وعليّ بن أبي طالب " وفي الحديث : «أنه عليه السلام ، طاف بالبيت ، فحين فرغ أخذ بمجامع ردائه ، فقالوا : له أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا ؟ فقال : أنا ذاك ، فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فالتزمه من ورائه وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم » ، رافعاً صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه .

وعن جعفر الصادق : أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرًّا ، وأبو بكر قاله ظاهراً .

وقال السدي : مسرف بالقتل .

وقال قتادة : مسرف بالكفر .

وقال صاحب التحرير والتحبير : هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب ، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى ، والقوم على تكذيبه ، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له ، وأنه من أتباعه ، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال : { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } ، ولم يذكر اسمه ، بل قال رجلاً يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له ، { أن يقول ربي الله } ، ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله ، أو هو نبي الله ، إذ لو قال شيئاً من ذلك لعلموا أنه متعصب .

ولم يقبلوا قوله ، ثم اتبعه بما بعد ذلك ، فقدم قوله : { وإن يك كاذباً } ، موافقة لرأيهم فيه .

ثم تلاه بقوله : { وإن يك صادقاً } ، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم ، لعلموا أنه متعصب ، وأنه يزعم أنه نبي ، وأنه يصدقه ، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه ، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق ، وهو قوله : { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } . انتهى .