وقوله : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } اختلفوا في هذا المؤمن ، قال مقاتل والسدي : كان قبطياً . ( وقيل ){[48090]} ابن عم فرعون ، وهو الذي حكى الله عنه { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى } [ القصص : 20 ] وقيل : كان إسرائيلياً ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الصديقون حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، والثالث أبو بكر الصديق{[48091]} وهو أفضلهم ، وعن جعفر بن محمد أنه قال : كان أبو بكر خيرا من مؤمن آل فرعون ، لأنه كان يكتم إيمانه ، وقال أبو بكر جهاراً أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكان ذلك سراً ، وهذا جهراً . روى عروةُ بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنعهُ المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «بَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبةُ بن أبي مُعَيْط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ » .
قال ابن عباس وأكثر العلماء كان اسم الجرل خزييل . وقال ابن إسحاق جبريل ، وقيل حبيب{[48092]} .
قوله : «رَجُلٌ مُؤْمِنٌ » الأكثرون قرأُوا بضم الجيم ، وقرئ رَجِلَ بكسر الجيم كما يقال : عَضِدٌ في عَضُدٍ{[48093]} . وقرأ الأعمش وعبد الوارث بتسكينها وهي لغة تميمٍ ونجد{[48094]} والأولى هي الفصحى .
قوله «من آل » يحتمل أن يكون متعلقاً «بيكْتُمُ » بعده أي يكتم إيمانه من آل فرعون{[48095]} .
قيل : هذا الاحتمال غير جائز ؛ لأنه لا يقال : كتمتُ من فلانٍ كذا ، إنما يقال : كتمته كذا ، قال تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] بل الظاهر تعلقه بمحذوف صفةً لرجل{[48096]} .
قال ابن الخطيب : يجوز أن يكون متعلقاً بقوله : «مؤمن » وإن كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون{[48097]} .
قال شهاب الدين : وجاء هنا على أحسن ترتيب حيث قدم المفرد ثم ما يقرب منه وهو حرف الجر ثم الجملة{[48098]} وقد تقدم أيضاً هذه المسألة في المائدة وغيرها ويترتب على الوجهين هل كان هذا الرجل من قرابة فرعون فعلى الأولى لا دليل فيه ، وقد رد بعضهم الأول{[48099]} بما تقدم ، وأنه لا يقال : كتمت من فلان كذا إنما يقال : كتمت فلاناً كذا فيتعدى لاثنين بنفسه ، قال تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وقال الشاعر :
4332 كَتَمْتُكَ هَمًّا بالجَمُومَيْنِ سَاهِراً *** وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنّاً وَظَاهِرَا
أَحَادِيثَ نَفْسٍ تَشْتَكِي مَا يَرِيبُها *** وَوِرْدَ هُمُومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصَادِرَا{[48100]}
أي كتمتك أحاديث نفس وهمين ، فقدم المعطوف على المعطوف عليه ومحلّه الشعر{[48101]} .
قوله { أَن يَقُولَ رَبِّيَ } أي كراهة أن يقول ، أو لأن يقول{[48102]} . قال الزمخشري : ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً أي وقت أن يقول والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر ( في أمره ){[48103]} وهذا الذي أجازه رده أبو حيان بأن تقدير هذا الوقت لا يجوز إلا مع المصدر المصرّح به ، تقول : صِيَاحَ الدِّيكِ أي وقت صياحه ، ولو قلت : أجيئك أَنْ صَاحَ الديك أو أَنْ يَصِيحَ لم يصح نص عليه النحويون{[48104]}
قوله : «وقد جاءكم » جملة حالية ، يجوز أن تكون من المفعول .
فإن قيل : هو{[48105]} نكرة .
فالجواب : أنه في حيِّز الاستفهام وكل ما سوغ الابتداء بالنكرة سوغ انتصاب الحال عنها ، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل{[48106]} .
لما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله بين أنه تعالى قَيَّضَ له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله } وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، وذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الإنكار ، وذلك لأنه ما زاد على أن قال : ربي الله وجاء بالبينات ، وذلك لا يوجب القتل البتةَ فقوله : { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } يحتمل وجهين :
الأول : أن قوله «ربي الله » إشارة إلى تعزيز النبوة بإظهار المعجزة .
الثاني : أن قوله «رَبِّي اللهُ » إشارة إلى التوحيد .
وقوله : { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد ، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتلِهِ غير جائز ، وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال : إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً عليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم فعلى كلا التقديرين الأولى إبقاؤه حيًّا .
فإن قيل : الإشكال على هذا الدليل من وجهين :
الأول : أن قوله { وإن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } معناه أن ( ضرر ){[48107]} كذبه مقصور عليه ولا يتعداه ، وهذا كلام فاسد لوجوه :
أولها : أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً يكون ضرر كذبه مقصوراً عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل ويغتر به جماعة ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد السيئ ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصوماتُ الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يكن ضرر كذبه مقصوراً عليه بل يكون متعدياً إلى الكل ، ولهذا أجمع العلماء على أن الزِّنْدِيقَ الذي يدعو الناس إلى زَنْدَقَتِهِ يجب قتله .
وثانيها : أنه إن كان هذا الكلام حجة فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فيمكن جميع الزنادقة والمُبْطِلَة من أديانهم{[48108]} الباطلة .
وثالثها : أن الكفار الذين انكروا موسى عليه الصلاة والسلام يجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقاً فما انتفعتم بصدقه ، فثبت أن هذه الطريق{[48109]} صَوَّبَتْ صدقه وما أفضى ثُبُوتُه إلى عدم صدقه كان فاسداً .
الوجه الثاني : كان من الواجب أن يقال : وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ كُلُّ الَّذِي يَعِدُكُمْ ؛ لأن الذي يصيب من بعض الذي{[48110]} يَعِدُ دون البعض هو الكفار والمنجمون . أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله : { يصيبكم بعض الذي يعدكم } غير لائق بهذا المقام .
والجواب عن الأسئلة الثلاثة بأن تقدير الكلام ( أنه ){[48111]} لا حاجة لكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه من إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن كان صادقاً فما انتفعتم به .
والمقصود من ذلك التقسيم أنه لا حاجة بكم إلى قتله بل يكفيكم أن تُعْرِضُوا عنه وأن تمنعوه من إظهار دينه . وأما الجواب عن الوجه الثاني : وهو قوله كان الأولى أن يقال : «يصيبكم كل الذي يعدكم » فهو من وجوه :
الأول : أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللَّجَاجِ ؛ لأَنَّ المقصود منه وإن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وِإن كان صادقاً فلا أقلَّ من أن يصيبكُم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من الكلام هذا صح ، ونظيره قوله { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبا : 24 ] .
والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوعّدهم بهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة ، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي وعدهم به .
الثالث : قال الزمخشري : «بعض » على بابها وإنما قال ذلك ليهضم موسى بعضَ حَقِّهِ في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له{[48112]} . وهذا أحسن من قول أبي عبيدة{[48113]} وغيره أن بعض بمعنى كل ، وأَنْشَدَ قَوْلَ لَبيدٍ :
4333 تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا *** أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامُها{[48114]}
وأنشد أيضاً قول عمرو بن شُيَيْمٍ :
4334 قَدْ يُدْرِكُ المُتأنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ *** وَقَدْ يَكُونُ مع المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ{[48115]}
4335 إنَّ الأُمُورَ إذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرهَا *** دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ{[48116]}
قال شهاب الدين : ولا أدري كيف فهموا «الكل » من البيتين الأخيرين ، وأما الأول ففيه بعض دليل لأن الموت يأتي على الكل{[48117]} . قال ابن الخطيب : والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا : وأراد لبيدٌ ببعض النفوس نفسه{[48118]} ، ومعنى البيت أنه وصف نفسه أنه نَزَّالُ أمكنةٍ أي كثيرُ النزول في أماكن لا يرضاها إلا أن يربط نفسه الحِمام وهو الموت ، وقال اللَّيْثُ : بعض ههنا صلة يُريد يصبكم الذي يعدكم{[48119]} . ولما حكى الزمخشري قول أبي عبيدة أن «بعض » بمعنى «الكل » وأنشد عنه بيت لبيد قال : إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قولُ المَازِنِيِّ في مسألة العَلْقَى : كان أجْفَى من أن يفقه ما أقول له{[48120]} . قال شهاب الدين : ومسألة المازني معه : هي أن أبا عبيدة قال للمازني : ما أكذب النحويين يقولون هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث ، فإن الألف في عَلْقَى ملحقة ، قال : فقلت له وما أنكرت من ذلك ؟ فقال : سمعت رؤبة يُنْشِدُ :
4336 يَنْحَطُّ فِي عَلْقَى . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[48121]} فمل ينونها ، فقلت : ما واحد علقى ؟ قال : عَلْقَاة ، قال المازني : فأَسِفْتُ ولم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا . قال شهاب الدين{[48122]} : وإنما استغلظه المازني ؛ لأن الألف التي للإلحاق قد تدخل عليها تاء التأنيث ( دالة{[48123]} الممتنع دخولها على ألف التأنيث ) نحو : دَعْوَى ، وصَرْعَى .
وأما عدم تنوين «علقى » فلأنه سمَّى بها شيئاً بعينه ، وألف الإلحاق المقصورة حال العلمية تجري{[48124]} مجرى تاء التأنيث فيمتنع الاسم الذي هو فيه كما يمتنع فاطمةُ وينصرفُ قَائِمة{[48125]} .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } وفيه احتمالان :
الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليه الصلاة والسلام والمعنى أن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذَّاباً فدل على أن موسى ليس من الكذابينَ .
الاحتمال الثاني : أن يكون المراد أن فرعون مسرفٌ في عزمه على قتل موسى كذابٌ في ادعائه الإلَهيَّة والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يُبْطِلُهُ ويَهْدِمُ ِأمره .