تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

الآية 28 وقوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : { من آل فرعون } في الظاهر ؛ وإلا لم يكن في الحقيقة من آله ، وإنما من آل موسى وأتباعه حين{[18226]} آمن به ، وترك اتباع فرعون ، والله أعلم .

والثاني : من آله أي من نسبه لأنه ذكر أنه كان ابن عمه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { يكتم إيمانه } إشفاقا على نفسه ، ولا يظهر الموافقة لهم على ما هم فيه ، إذ قد على الكتمان دون إظهار الموافقة لهم . وعلى ذلك المكره على إظهار الكفر إذا قدر على ألا يظهر ما أريد منه من كلمة الكفر ، ولا يقبل الامتناع ، لا يسع له إظهار ذلك لهم . فإن لم يقدر فحينئذ يسع . فعلى ذلك ما ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } فيه إخبار أنه كان يكتم إيمانه إشفاقا على نفسه ، فلما خاف إهلاك رسول الله موسى عليه السلام ، فعند ذلك أظهر ما كان يكتمه ، وإن كان في إظهار ذلك إهلاك نفسه بعد أن يرجو نجاة نبي من الأنبياء عليهم السلام .

وهكذا يجب ألا يسع كتمان ما كان يكتمه ، وإن كان في إظهار ذلك [ ٌهلاك نفسه ونجاة ]{[18227]} رسول من رسل الله تعالى عليهم السلام بحجج تدفع الهلاك بها عن نفس ذلك الرسول .

ولذلك ذُكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن أهل مكة لما همّوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإهلاكه ألقى أبو بكر رضي الله عنه نفسه عليه ، وقال ما قال :

[ وذُكر أنه ]{[18228]} ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه حين{[18229]} قال : { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } فعند ذلك نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن نزل قبل ذلك [ آية فيه ]{[18230]} والله أعلم .

وقوله تعالى : { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } أي جاءكم من البينات ما يبين أنها آيات من عند الله ، لا اختراعات{[18231]} من موسى عليه السلام ويبين أنه صادق في ما يقول ، ويدّعي .

وقوله تعالى : { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } وإن كان كاذبا في ما يدعوكم إليه فعليه كذبه ، وإن كان صادقا في ما يقول ، ويدّعي { يصيبكم بعض الذي يعدكم } فهو يعلم أنه صادق في ما يقول حقيقة .

[ ولكن لما ]{[18232]} كان عند القوم احتمال الأمر ذُكر على [ ما ]{[18233]} في زعمهم دفعا للقتل عن موسى عليه السلام .

ثم الإشكال أنه قال : { يصيبكم بعض الذي يعدكم } ذكر أنه يصيبهم بعض الذي يعد الرسل ؛ إذا وعدوا شيئا يصيبهم بكماله . لا يجوز أن يكون خلاف ما أخبروا أو دون ما ذكروا . لكن يخرّج على وجوه :

أحدها : أنه كان وعده إياهم أن يصيبهم العذاب في الدنيا والآخرة ، فيقول : { يصيبكم بعض الذي يعدكم } وهو ما وعد لهم أن يصيبهم في الدنيا . وأما ما{[18234]} وعد لهم في الآخرة [ فهو ]{[18235]} يصيبهم في وقت آخر ، وهو في الآخرة .

فما أصابهم في الدنيا فهو ما جرى الوعيد منه لهم ، لأن الوعيد كان منه في الدنيا والآخرة ، والله أعلم .

والثاني : يحتمل أنه كان عليه السلام وعدهم بأنواع من العذاب ، وقد أصابهم بعض ذلك من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونحو ذلك . وفي بعض ما وعدهم ، هو هلاكهم . فكأنه يقول لهم : إنكم{[18236]} قد أصابكم [ كثير ]{[18237]} من ذلك ، فيصيبكم بعض{[18238]} ما يعدكم الذي فيه هلاككم مبالغة في الزجر لما أصابهم ما وعد لهم من أنواع العذاب . ولم يكن وعده كذبا ، فبعض ما وعدكم ، وهو الهلاك ، كيف يكون كذبا ؟ والله أعلم والموفّق .

والثالث : يراد بالبعض الكل ، لأنه أراد بهذا البعض الهلاك ، وهو البعض الأقصى ، فيدخل العالي فيه لأنه إذا أوعد بأنواع من العذاب ، منها الهلاك ، وهو{[18239]} البعض الأقصى ، إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك ، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا{[18240]} ، قبل الهلاك ، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله ، ويكون ذكره ذكر الكل ؛ إذ لا وجود له بدون سائرها . لذلك قال : { يصيبكم بعض الذي يعدكم } ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } هذا يخرّج على وجهين :

أحدهما : أنه لا يهدي من هو في علمه أنه يؤثر الإسراف والكذب .

والثاني : لا يهدي من هو مختارٌ الإسراف والكذب وقت اختياره{[18241]} الإسراف والكذب .


[18226]:في الأصل وم: حيث.
[18227]:في الأصل وم: نجاة.
[18228]:ساقطة من الأصل وم.
[18229]:في الأصل وم: حيث.
[18230]:ساقطة من الأصل وم.
[18231]:في الأصل وم: اختراعا.
[18232]:من م، في الأصل: لكن ولما.
[18233]:من م، ساقطة من الأصل.
[18234]:من م، في الأصل: من.
[18235]:من م، ساقطة من الأصل.
[18236]:في الأصل وم: إنهم.
[18237]:في م: كثيرا، ساقطة من الأصل.
[18238]:من م، في الأصل: بعد.
[18239]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[18240]:أدرج بعدها في الأصل وم: يكون.
[18241]:في الأصل وم: اختيارهم.