السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

واختلف في الرجل المؤمن في قوله تعالى : { وقال رجل مؤمن } أي : راسخ الإيمان { من آل فرعون } أي : من وجوههم ورؤسائهم { يكتم إيمانه } أي : يخفيه خفاء شديداً خوفاً على نفسه ، فقال مقاتل والسدي : كان قبطياً ابن عم فرعون وهو الذي حكى الله تعالى عنه : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } ( القصص : 20 ) ، وقيل : كان إسرائيلياً ، وعن ابن عباس : لم يكن في آل فرعون غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى عليه السلام الذي قال : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ، ومؤمن آل فرعون الذي قال { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } ( غافر : 28 )

والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم » . وعن جعفر بن محمد أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سراً وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه جهاراً { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } وروي عن عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وقال له : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا ؟ قال : أنا ذلك فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } فكان أبو بكر أشد من ذلك » . وعن أنس بن مالك قال : «ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه ، فقام أبو بكر فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله قالوا : من هذا ؟ قيل : هذا ابن أبي قحافة » . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وأكثر العلماء كان اسم الرجل حزقيل ، وقال ابن إسحاق : جبريل ، وقيل : حبيب .

ولما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع فرعون وشره على الاستعاذة بالله تعالى ، بين أنه تعالى قبض له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه ، وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال : { أتقتلون رجلاً } أي : هو عظيم في الرجال حساً ومعنى ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال : { أن } أي : لأجل أن { يقول } قولاً على سبيل الإنكار { ربي } أي : المربي والمحسن إلي { الله } أي : الجامع لصفات الكمال { وقد } أي : والحال أنه قد { جاءكم بالبينات } أي : الآيات الظاهرات من غير لبس { من ربكم } أي : الذي لا إحسان عندكم إلا منه ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال : { وإن يك } أي : هذا الرجل { كاذباً فعليه } أي : خاصة { كذبه } أي : كان وبال كذبه عليه وليس عليكم منه ضرر فاتركوه { وإن يك صادقاً يصيبكم بعض الذي يعدكم } أي : العذاب عاجلاً وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً ، فإن قيل : لم قال { بعض الذي يعدكم } وهو نبي صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله ؟ أجيب : بأنه إنما قال ذلك ليهضم موسى بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له ، وهذا أولى من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل ، وأنشد قول لبيد :

تراك أمكنة إذا لم أرضها *** أو ترتبط بعض النفوس حمامها

وأنشد أيضاً قول عمرو بن سهم :

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقال الآخر :

إن الأمور إذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا

وقوله : { إن الله } أي : الذي له مجامع العظمة { لا يهدي } إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر { من هو مسرف } بإظهار الفساد وبتجاوز الحدود { كذاب } فيه احتمالان ؛ أحدهما : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليه السلام ، والمعنى أن الله تعالى هدى موسى عليه السلام إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ومن هداه الله تعالى إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً ، فدل على أن موسى عليه السلام ليس من المسرفين الكذابين ، ثانيهما : أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى عليه السلام كذاب في ادعائه الإلهية والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره .