فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه } قال الحسن ، ومقاتل والسدّي : كان قبطياً ، وهو ابن عم فرعون ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله : { وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى } [ القصص : 20 ] الآية ، وقيل : كان من بني إسرائيل ، ولم يكن من آل فرعون ، وهو خلاف ما في الآية ، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً ، والتقدير : وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون . قال القشيري : ومن جعله إسرائيلياً ، ففيه بعد ، لأنه يقال : كتمه أمر كذا ، ولا يقال : كتم منه كما قال سبحانه : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] ، وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول .

وقد اختلف في اسم هذا الرجل ، فقيل : حبيب . وقيل : حزقيل . وقيل غير ذلك ، قرأ الجمهور { رجل } بضم الجيم ، وقرأ الأعمش وعبد الوارث بسكونها ، وهي لغة تميم ونجد ، والأولى هي الفصيحة ، وقرئ بكسر الجيم و{ مؤمن } صفة لرجل ، و{ من آل فرعون } صفة أخرى ، و{ يكتم إيمانه } صفة ثالثة ، والاستفهام في { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } للإنكار ، و{ أَن يَقُولَ رَبّىَ الله } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي : لأن يقول ، أو كراهة أن يقول ، وجملة : { وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ } في محل نصب على الحال ، أي والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات ، والدلالات الظاهرات على نبوّته ، وصحة رسالته ، ثم تلطف لهم في الدفع عنه ، فقال : { وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } ، ولم يكن قوله هذا لشك منه ، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله . ولا يشك المؤمن ، ومعنى { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } أنه إذا لم يصبكم كله ، فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه ، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، كما قال سيبويه ، وقال أبو عبيدة ، وأبو الهيثم : بعض هنا بمعنى كل ، أي : يصبكم كلّ الذي يعدكم ، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد :

تراك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

أي كلّ النفوس ، وقد اعترض عليه ، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكلّ كما في قول الشاعر :

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقول الآخر :

إن الأمور إذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا

وليس في البيتين ما يدلّ على ما زعموه ، وأما بيت لبيد ، فقيل : إنه أراد ببعض النفوس نفسه ، ولا ضرورة تلجأ إلى حمل ما في الآية على ذلك ، لأنه أراد التنزّل معهم ، وإيهامهم : أنه لا يعتقد صحة نبوّته كما يفيده قوله : { يَكْتُمُ إيمانه } قال أهل المعاني : وهذا على المظاهرة في الحجاج ، كأنه قال لهم : أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وفي بعض ذلك هلاككم ، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل . وقال الليث : بعض ها هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم . وقيل : يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا ، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب . وقيل : إنه وعدهم بالثواب ، والعقاب ، فإذا كفروا أصابهم العقاب ، وهو بعض ما وعدهم به { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } هذا من تمام كلام الرجل المؤمن ، وهو احتجاج آخر ذو وجهين : أحدهما : أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ، ولا أيده بالمعجزات ، وثانيهما : أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله ، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها ، والكذاب المفتري .

/خ29