قوله تعالى : { وإن من شيء } ، أي : وما من شيء ، { إلا عندنا خزائنه } ، أي مفاتيح خزائنه . وقيل : أرد به المطر . { وما ننزله إلا بقدر معلوم } ، لكل أرض حد مقدر ، ويقال : لا تنزل من السماء قطرة إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله عز وجل ويشاء . وعن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده قال : في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر والبحر ، وهو تأويل قوله تعالى : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } .
{ 21 } { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }
أي : جميع الأرزاق وأصناف الأقدار لا يملكها أحد إلا الله ، فخزائنها بيده يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، بحسب حكمته ورحمته الواسعة ، { وَمَا نُنَزِّلُهُ } أي : المقدر من كل شيء من مطر وغيره ، { إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } فلا يزيد على ما قدره الله ولا ينقص منه .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن كل شيء في هذا الكون ، خاضع لإرادته وقدرته ، وتصرفه . . فقال - تعالى - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } .
و " إن " نافية بمعنى ما ، و " من " مزيدة للتأكيد . و { خزائنه } جمع خزانة ، وهى في الأصل تطلق على المكان الذي توضع فيه نفائس الأموال للمحافظة عليها .
والمعنى : وما من شيء من الأشياء الموجودة في هذا الكون ، والتى يتطلع الناس إلى الانتفاع بها . إلا ونحن قادرون على إيجادها وإيجاد أضعافها بلا تكلف أو إبطاء ، كما قال - تعالى - : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فقد شبه - سبحانه - اقتداره على إيجاد كل شئ ، بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، والمعدة لإِخراج ما يشاء إخراجه منها بدون كلفة أو إبطاء .
والمراد بالإِنزال في قوله { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } . الإِيجاد والإِخراج إلى هذه الدنيا ، مع تمكين الناس من الحصول عليه .
أى : وما نخرج هذا الشىء إلى حيز الوجود بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به إلا ملتبسًا بمقدار معين ، وفى وقت محدد ، تقتضيه حكمتنا ، وتستدعيه مشيئتنا ، ويتناسب مع حاجات العباد وأحوالهم ، كما قال - تعالى - { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ }
[ وقوله ]{[16112]} { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }
يخبر ، تعالى ، أنه مالك كل شيء ، وأن كل شيء سهل عليه ، يسير لديه ، وأن{[16113]} عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف ، { وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } كما يشاء وكما يريد ، ولما لَهُ في ذلك من الحكمة البالغة ، والرحمة بعباده ، لا على [ وجه ]{[16114]} الوجوب ، بل هو كتب على نفسه الرحمة .
قال يزيد بن أبي زياد ، عن أبي جحيفة ، عن عبد الله : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يقسمه حيث شاء{[16115]} عامًا هاهنا ، وعامًا هاهنا . ثم قرأ : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } رواه ابن جرير{[16116]}
وقال أيضا : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسن{[16117]} حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الحكم بن عُتَيْبَة{[16118]} في قوله : { وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } قال : ما{[16119]} عام بأكثر مطرًا من عام ولا أقل ، ولكنه يُمطر قوم ويحرم آخرون وربما{[16120]} كان في البحر . قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم ، يُحصُون كل قطرة حيث تقع وما تنبت{[16121]} {[16122]}
وقال البزار : حدثنا داود - وهو ابن بكر{[16123]} التُّسْتُري - حدثنا حبَّان{[16124]} بن أغلب بن تميم ، حدثني أبي ، عن هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خزائن الله الكلام ، فإذا أراد شيئا قال له : كن ، فكان " {[16125]}
ثم قال : لا يرويه إلا أغلب ، ولم يكن بالقوي ، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين ، ولم يروه عنه إلا ابنه .
وقوله : { وإن من شيء }{[7146]} قال ابن جريج : وهو المطر خاصة .
قال القاضي أبو محمد : وينبغي أن تكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات .
و «الخزائن » المواضع الحاوية ، وظاهر هذا أن الماء والريح ونحو ذلك موجود مخلوق ، وهو ظاهر في قولهم في الريح : عتت على الخزان وانفتح منها قدر حلقة الخاتم ، ولو كان قدر منخر الثور لأهلك الأرض ؛ إلى غير هذا من الشواهد . وذهب قوم إلى أن كونها في القدرة هو خزنها ، فإذا شاء الله أوجدها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أيضاً ظاهر في أشياء كثيرة . وهو لازم في الاعتراض إذا عممنا لفظة { شيء } وكيفما كان الأمر فالقدرة تسعه وتتقنه .
وقوله : { ننزله } ما كان من المطر ونحوه : فالإنزال فيه متمكن ، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به ، إنزال على تجوز .
وقرأ الأعمش : «وما نرسله »{[7147]} .
وقوله : { بقدر معلوم } روي فيه عن ابن مسعود وغيره : أنه ليس عام أكثر مطراً من عام ، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع .
هذا اعتراض ناشىء عن قوله { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } [ سورة الحجر : 19 ] الآية . وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى { يأخذ كل سفينة غصباً } [ سورة الكهف : 79 ] أي سفينةٍ صالحةٍ .
والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة . شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المَكنية ، ورُمز إلى الهيئة المشبّه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن . وتقدم عند قوله تعالى : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } في سورة الأنعام ( 50 ) .
وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب في أحوال مخصوصة ، أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البَرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة .
وقوله { وما ننزله إلا بقدر معلوم } أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم ، قال تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } في سورة البقرة ( 29 ) ، إطلاقاً مجازياً لأن ما خلقه الله لمّا كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبّه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني ، وهو علو معنوي ، أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية ، وهذا كقوله تعالى { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } في سورة الزمر ( 6 ) ، وقوله تعالى : { يتنزل الأمر بينهن } في سورة الطلاق ( 12 ) .
والقَدر بفتح الدال : التقدير . وتقدم عند قوله تعالى { فسالت أودية بقدرها } في سورة الرعد ( 17 ) .