قوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك } ، قال جابر : أتى صبي فقال : يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعاً ، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه ، فقال للصبي : من ساعة إلى ساعة يظهر ، فعد وقتاً آخر ، فعاد إلى أمه فقالت : قل له : إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره فنزع قميصه فأعطاه إياه ، وقعد عرياناً ، فأذن بلال للصلاة ، فانتظروه فلم يخرج ، فشغل قلوب أصحابه ، فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً ، فأنزل الله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } يعني : ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق كالمغلولة يده لا يقدر على مدها . { ولا تبسطها } ، بالعطاء { كل البسط } ، فتعطي جميع ما عندك ، { فتقعد ملوماً } ، يلومك سائلوك بالإمساك إذا لم تعطهم . و الملوم الذي أتى بما يلوم نفسه ، أو يلومه غيره ، { محسوراً } منقطعاً بك ، لا شيء عندك تنفقه . يقال : حسرته بالمسألة إذا ألحفت عليه ، ودابة حسيرة إذا كانت كالة رازحة . قال قتادة : محسوراً نادماً على ما فرط منك .
وقال هنا : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } كناية عن شدة الإمساك والبخل .
{ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } فتنفق فيما لا ينبغي ، أو زيادة على ما ينبغي .
{ فَتَقْعُدَ } إن فعلت ذلك { مَلُومًا } أي : تلام على ما فعلت { مَحْسُورًا } أي : حاسر اليد فارغها فلا بقي ما في يدك من المال ولا خلفه مدح وثناء .
وهذا الأمر بإيتاء ذي القربى مع القدرة والغنى ، فأما مع العدم أو تعسر النفقة الحاضرة فأمر تعالى أن يردوا ردا جميلا فقال : { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا }
ثم أرشد - سبحانه - عباده إلى أفضل الطرق لإِنفاق أموالهم والتصرف فيها ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } .
وقوله { مغلولة } من الغل - بضم الغين - وأصله الطوق الذى يجعل فى العنق وتربط به اليد ، كما يربط المذنب والأسير : وهو كناية عن البخل والتقتير .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط . ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة . حتى أنه يستعمله فى ملك لا يعطى عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها . ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان للبخل والجود . . .
وقوله : { محسورا } من الحسور بمعنى الانقطاع عن الشئ ، والعجز عن الحصول عليه .
يقال : فلان حسره السير ، إذا أثر فيه أثرا بليغا جعله يعجز عن اللحاق برفقائه .
ويقال : بعير محسور . أى : ذهبت قوته وأصابه الكلل والإِعياء . فصار لا يستطيع النهوض بما يوضع عليه من أحمال .
والمقصود من الآية الكريمة : الأمر بالتوسط والاعتدال فى الإِنفاق والنهى عن البخل والإِسراف .
فقد شبه - سبحانه - مال البخيل ، بحال من يده مربوطة إلى عنقه ربطا محكما بالقيود والسلاسل ، فصار لا يستطيع تحريكها أو التصرف بها .
وشبه حال المسرف والمبذر ، بحال من مد يده وبسطها بسطا كبيرا ، بحيث أصبحت لا تمسك شيئا يوضع فيها سواء أكان قليلا أم كثيرا .
والمعنى : كن - أيها الإِنسان - متوسطا فى كل أمورك ، ومعتدلا فى إنفاق أموالك بحيث لا تكون بخيلا ولا مسرفا ، فان الإِسراف والبخل يؤديان بك إلى أن تصير ملوما . أى : مذموما من الخلق والخالق ، محسورا ، أى : مغموما منقطعا عن الوصول إلى مبتغاك بسبب ضياع مالك ، واحتياجك إلى غيرك .
قال الآلوسى ما ملخصه : فالآية الكريمة تحض على التوسط ، وذلك هو الجود الممدوح ، فخير الأمور أوساطها . وأخرجه أحمد وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل ناهيًا عن السَّرَف : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } أي : لا تكن بخيلا منوعًا ، لا تعطي أحدًا شيئًا ، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ]أي نسبوه إلى البخل ، تعالى وتقدس الكريم الوهاب .
وقوله : { وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } أي : ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك ، وتخرج أكثر من دخلك ، فتقعد ملومًا محسورًا .
وهذا من باب اللف والنشر أي : فتقعد إن بخلت ملومًا ، يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سُلمى في المعلقة :
ومن كان ذا مال ويبخل بماله *** على قومه يستغن عنه ويذمم{[17441]}
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهو : الدابة التي قد عجزت عن السير ، فوقفت ضعفًا وعجزًا{[17442]} فإنها تسمى الحسير ، وهو مأخوذ من الكلال ، كما قال تعالى : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 3 ، 4 ] أي : كليل عن أن يرى عيبًا . هكذا فسر هذه الآية - بأن المراد هنا البخل والسرف - ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم .
وقد جاء في الصحيحين ، من حديث أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مثل البخيل والمنفق ، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما{[17443]} إلى تراقيهما . فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَت - أو : وفرت - على جلده ، حتى تُخفي بنانه وتعفو{[17444]} أثره . وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسعها فلا{[17445]} تتسع " .
هذا لفظ البخاري في الزكاة{[17446]} .
وفي الصحيحين من طريق هشام بن عُرْوَةَ ، عن زوجته فاطمة بنت المنذر ، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنفقي هكذا وهكذا وهكذا ، ولا تُوعِي فَيُوعي الله عليك ، ولا توكي فيوكي الله عليك " وفي لفظ : " ولا تُحصي فيحصي الله عليك " {[17447]} .
وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قال لي : أنفق أنفق عليك " {[17448]} .
وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مُزَرِّد ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم أعط منفقًا خلفًا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكًا تلفًا " {[17449]} .
وروى مسلم ، عن قتيبة ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء{[17450]} عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعًا : " ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا{[17451]} ومن تواضع لله رفعه الله " {[17452]} .
وفي حديث أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا : " إياكم والشُّح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا " {[17453]} .
وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، [ عن ابن بريدة ]{[17454]} عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يخرج رجل صدقة ، حتى يفك لَحْيَى سبعين شيطانا " {[17455]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سُكَين{[17456]} بن عبد العزيز ، حدثنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعوده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عال من اقتصد " {[17457]} .
وقوله { ولا تجعل يدك } الآية ، روي عن قالون «كل البصط » بالصاد ، ورواه الأعشى عن أبي بكر ، واستعير لليد المقبوضة جملة عن الإنفاق المتصفة بالبخل «الغل إلى العنق » ، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل ، وكل هذا في إنفاق الخير ، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام ، وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مثل البخيل والمتصدق »{[7536]} ، والحديث بكامله ، والعلامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطي ، و «المحسور » المقعد الذي قد استنفدت قوته تقول حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة فهو حسير ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجى لم كن عوناً على السرى . . . ولا زال منها ظالع وحسير{[7537]}
ومنه البصر الحسير وهو الكال ، وقال ابن جريج وغيره في معنى هذه الآية ، لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق ، ولا تبسطها كل البسط فيما نهيتك عنه ، وقال قتادة : «التبذير » النفقة في معصية الله ، وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيراً ، ولو أنفق مداً في باطل تبذيراً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا فيه نظر ، ولا بعض البسط لم يبح فيما نهى عنه . ولا يقال في المعصية ولا تبذر ، وإنما يقال ولا تنفق ولو باقتصاد وقوام ، ولله در ابن عباس وابن مسعود فإنهما قالا : التبذير الإنفاق وفي غير حق ، فهذه عبارة تعم المعصية والسرف في المباح ، وإنما نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد{[7538]} فيما يطرأ أولاً من سؤال المؤمنين لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له أو لئلا يضيع المنفق عيالاً ونحوه ، ومن كلام الحكمة : ما رأيت قط سرفاً إلا ومعه حق مضيع ، وهذه من آيات فقه الحال ، ولا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس .
عود إلى بيان التبذير والشح ، فالجملة عطف على جملة { ولا تبذر تبذيراً } [ الإسراء : 26 ] . ولولا تخلل الفصل بينهما بقوله ؛ { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك } [ الإسراء : 28 ] الآية لكانت جملة ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك غَيْر مقترنة بواو العطف لأن شأن البيان أن لا يعطف على المبين ، وأيضاً على أن في عطفها اهتماماً بها يجعلها مستقلة بالقصد لأنها مشتملة على زيادة على البيان بما فيها من النهي عن البخل المقابل للتبذير .
وقد أتت هذه الآية تعليماً بمعرفة حقيقة من الحقائق الدقيقة فكانت من الحكمة . وجاء نظمها على سبيل التمثيل فصيغت الحكمة في قالب البلاغة .
فأما الحكمة فإذ بينت أن المحمود في العطاء هو الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط ، وهذه الأوساط هي حدود المحامد بين المذام من كل حقيقة لها طرفان . وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خلق طرفين ووسطاً ، فالطرفان إفراط وتفريط وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد ، وأن الوسط هو العدل ، فالإنفاق والبذل حقيقة أحد طرفيها الشح وهو مفسدة للمحاويج ولصاحب المال إذ يجر إليه كراهية الناس إياه وكراهتيه إياهم . والطرف الآخر التبذير والإسراف ، وفيه مفاسد لذي المال وعشيرته لأنه يصرف ماله عن مستحقه إلى مصارف غير جديرة بالصرف ، والوسط هو وضع المال في مواضعه وهو الحد الذي عبر عنه في الآية بنفي حالين بين ( لا ولا ) .
وأما البلاغة فبتمثيل الشح والإمساك بغل اليد إلى العُنق ، وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدراً للبذل والعطاء ، وتخيُّل بَسطها كذلك وغلها شحاً ، وهو تخيل معروف لدى البلغاء والشعراء ، قال الله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة ثم قال : { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة : 64 ] وقال الأعشى :
يَداك يدَا صدق فكف مفيدة *** وكف إذا ما ضُن بالمال تنفق
ومن ثم قالوا : له يدُ على فلان ، أي نعمة وفضل ، فجاء التثميل في الآية مبنياً على التصرف في ذلك المعنى بتمثيل الذي يشح بالمال بالذي غُلّت يده إلى عنقه ، أي شدت بالغُلّ ، وهو القيد من السير يشد به يد الأسير ، فإذا غُلت اليد إلى العنق تعذر التصرف بها فتعطل الانتفاع بها فصار مصدر البذل معطلاً فيه ، وبضده مُثِّلَ المسرف بباسط يده غاية البسط ونهايته وهو المفاد بقوله : { كل البسط } أي البسطَ كله الذي لا بسط بعده ، وهو معنى النهاية . وقد تقدم من هذا المعنى عند قوله تعالى : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } إلى قوله : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } في سورة العقود [ المائدة : 64 ] . هذا قالب البلاغة المصوغةُ في تلك الحكمة .
وقوله : { فتقعد ملوما محسوراً } جواب لكلا النهيين على التوزيع بطريقة النشر المرتب ، فالملوم يرجع إلى النهي عن الشح ، والمحسور يرجع إلى النهي عن التبذير ، فإن الشحيح ملوم مذموم . وقد قيل :
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله *** على قومه يُستغن عنه ويذمم
والمحسور : المنهوك القوى . يقال : بعير حسير ، إذا أتعبه السير فلم تبق له قوة ، ومنه قوله تعالى : { ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } [ الملك : 4 ] ، والمعنى : غير قادر على إقامة شؤونك . والخطاب لغير معين . وقد مضى الكلام على تقعد آنفاً .