البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا} (29)

المحسور قال الفراء : تقول العرب بعير محسور إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها ، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى .

قال الشاعر :

بها جيف الحسرى فأما عظامها . . . ***فبيض وأما جلدها فصليب

{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عقنك } الآية .

قيل : نزلت في إعطائه صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يكن له غيره وبقي عرياناً .

وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وعيينة مثل ذلك ، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت ، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول ، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد ، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء ، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها ، وبسطها يذهب ما فيها ، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها ، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام .

فقال في المعتصم :

تعوّد بسط الكف حتى لو انّه . . . ***ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله

وقال الزمخشري : هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والإقتار انتهى .

والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلاّ فهو صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئاً لغد ، وكذلك من كان واثقاً بالله حق الوثوق كأبي بكر حين تصدّق بجميع ماله .

وقال ابن جريج وغيره : المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق { ولا تبسطها } فيما نهيتك عنه وروي عن قالون : كل البصط بالصاد فتقعد جواب للهيئتين باعتبار الحالين ، فالملوم راجع لقوله : { ولا تجعل يدك } .

كما قال الشاعر :

إن البخيل ملوم حيث كان . . . ***ولكن الجواد على علاتّه هرم

والمحسور راجع لنوله { ولا تبسطها } وكأنه قيل فتلام وتحسر ،