إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا} (29)

{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } تمثيلان لمنع الشحيحِ وإسرافِ المبذِّرِ زجراً لهما عنهما وحملاً على ما بينهما من الاقتصاد : [ الطويل ]

كلا طَرَفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ{[499]} *** . . . . . . . .

وحيث كان قبحُ الشحِّ مقارِناً له معلوماً من أول الأمر رُوعيَ ذلك في التصوير بأقبح الصور ، ولمّا كان غائلةُ الإسراف في آخره بُيِّن قبحُه في أثره فقيل : { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } أي فتصيرَ ملوماً عند الله تعالى وعند الناسِ وعند نفسك إذا احتجتَ وندِمْت على ما فعلت { مَّحْسُوراً } نادماً أو منقطعاً بك لا شيءَ عندك من حسَره السفرُ إذا بلغ منه .

وما قيل من أنه روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال : بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ إذ أتاه صبيٌّ فقال : إن أمي تستكْسيك دِرعاً فقال عليه السلام : « من ساعة إلى ساعة فَعُد إلينا » فذهب إلى أمه فقالت له : قل : إن أمي تستكسيك الدرعَ الذي عليك ، فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزَع قميصه وأعطاه وقعد عُرْياناً ، وأذّن بلالٌ ، وانتظروا فلم يخرُجْ للصلاة فنزلت . فيأباه{[500]} أن السورة مكيةٌ خلا آياتٍ في آخرها ، وكذا ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرعَ بنَ حابس من الإبل وكذا عُيَينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ فجاء عباسُ بنُ مِرداس فأنشد يقول :

أتجعل نهبي و نهبَ العُبَي *** د بَيْنَ عُيَيْنَةَ والأَقْرَعِ

وما كان حِصْنٌ ولا حابس *** يفوقان مِرداسَ في مجمع

و ما كنتُ دون امرئ منهما *** ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يُرفعِ{[501]}

فقال عليه السلام : « يا أبا بكر اقطعْ لسانه عنّي ، أعطه مائةً من الإبل » وكانوا جميعاً من المؤلفة القلوب فنزلت .


[499]:ورد هذا الشطر غير منسوب في لسان العرب (غلا).
[500]:جواب "وما قيل".
[501]:الأبيات للعباس بن مرداس في ديوانه ص 84؛ وورد البيت الأول منها منسوبا إليه في لسان العرب (نهب، عبد)؛ وتاج العروس (نهب، عبد).