اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا} (29)

قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية .

لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة ، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق .

واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين ، فقال تعالى { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .

فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف ، فقال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } أي لا تمسك عن الإنفاق ، بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم ، أي : لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ، { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } أي : ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ .

والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ ، وهما مذمومان ، والخلق الفاضل{[20373]} هو العدل والوسط ، فالبخل إفراطٌ في الإمساك ، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ ، وهما مذمومان ، والمعتدل الوسطُ .

روى جابرٌ - رضي الله عنه - قال : " أتى صبي فقال : يا رسول الله ، إنَّ أمِّي تَسْتَكسِيكَ دِرْعاً ، ولم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قميصهُ ، فقال للصبيِّ : من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر ، فعاد إلى أمِّه فقالت : قل له : إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ الدِّرع الذي عليك ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دَارهُ ، ونزعَ قَمِيصهُ ، فأعطاهُ ، فقعد عُرياناً ، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ ، فانتظره ، فلم يخرج ، فشغل قُلوبَ أصحابه ، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً " ، فأنزلَ الله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ }{[20374]} يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده ، ولا يقدر على مدِّها ، " ولا تَبْسُطهَا " بالعطاء " كُلَّ البَسْطِ " فتعطي جميع ما عندك .

و { كُلَّ البسط } : نصب على المصدر ؛ لإضافتها إليه ، و " فَتقْعُدَ " نصب على جواب النهي وتقدَّم الكلام عليه ، و " مَلُوماً " إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبر كما تقدَّم ؛ ومعنى كونه ملوماً أنه يلومُ نفسه ، وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المالِ وإبقاءِ الأهل في الضَّرر والمحنة ، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم ، وأمَّا كونه محسوراً ، فقال الفراء : العرب تقول للبعير : محسورٌ ، إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابَّة ، إذا سيَّرتها حتى ينقطع سيرها ، ومنه قوله تعالى : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] .

وقال قتادة - رحمه الله- : محسوراً نادماً على ما فرط منك{[20375]} ويجمع الحسيرُ على حَسْرَى ، مثل : قَتْلَى وصَرْعَى .

قال الشاعر : [ الطويل ]

بِهَا جِيَفُ الحَسْرى ، فأمَّا عِظَامُهَا *** فَبِيضٌ وأمَّا جِلدُهَا فَصلِيبُ{[20376]}

وحسر عن كذا ، كشف عنه كقوله [ الطويل ]

. . . . . . . . . . يَحْسُرِ المَاءَ تَارةً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20377]}

والمحسور : المنقطع السَّير ، ومنه حسرت الدَّابة ، قطعت سيرها ، وحسير أي : كالٌّ : تعبان بمعنى : محسور .

قال القفال{[20378]} : شبَّه حال من أنفق كلَّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته ؛ لأنَّ ذلك المقدار من المال ، كأنَّه مطيَّة تحمل الإنسان إلى آخر السَّفر ، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله ، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطَّريق عاجزاً متحيِّراً ، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدَّة شهر ، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ، ومن فعل هذا ، لحقه اللَّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره ، وترك الحزم في مهمَّات معاشه .


[20373]:في أ: العادل.
[20374]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/112).
[20375]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/72).
[20376]:تقدم.
[20377]:تقدم.
[20378]:ينظر: الفخر الرازي 20/156.