فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا} (29)

لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيّن أدب الإنفاق فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } وهذا النهي يتناول كل مكلف ، سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته وتعليماً لهم ، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين . والمراد : النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله ، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه ، بحيث يكون به مسرفاً ، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط . ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط ، وهو العدل الذي ندب الله إليه :

ولا تك فيها مُفْرِطاً أو مفَرِّطا *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه ، بحيث لا يستطيع التصرّف بها ، ومثّل حال من يجاوز الحدّ في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه ، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة . ثم بيّن سبحانه غائلة الطرفين المنهيّ عنهما فقال : { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح { مَحْسُوراً } بسبب ما فعلته من الإسراف ، أي : منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر ، والمحسور في الأصل : المنقطع عن السير ، من حسره السفر إذا بلغ منه ، والبعير الحسير : هو الذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به ، ومنه قوله تعالى : { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] . أي : كليل منقطع ؛ وقيل : معناه نادماً على ما سلف ، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة ، وفيه نظر ، لأن الفاعل من الحسرة : حسران . ولا يقال محسور إلاّ للملوم .

/خ33