فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا} (29)

{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ( 29 ) }

ولما ذكر الله سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بين أدب الإنفاق فقال { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } هذا النهي يتناول كل مكلف سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تعرضا لأمته وتعليما لهم ، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين ، والمراد النهي للإنسان بأن يمسك إمساكا يصير به مضيقا على نفسه وعلى أهله ، ولا يوسع في الإنفاق توسيعا لا حاجة إليه بحيث يكون به مسرفا ، فهو نهي عن جانبي الإفراط والتفريط ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط ، وهو العدل الذي ندب الله إليه .

ولا تك فيها مفرطا أو مفرطا كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد مثل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه مضمومة إليه مجموعة معه في الغل بحيث لا يستطيع التصرف بها ، ومثل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطا لا يتعلق بسببه فيها مما يقبض الأيدي عليه ولا يبقى شيئا في كفه ، وفي هذا التصوير مبالغة عظيمة بليغة ثم بين سبحانه غاية الطرفين المنهي عنهما فقال : { فَتَقْعُدَ } تصير { مَلُومًا } مذموما عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح أو عند الله سبحانه لأن الشح غير مرضي لديه أو عند نفسك وأصحابك أو يلومك سائلوك إذا لم تعطهم .

{ مَّحْسُورً } بسبب ما فعلته من الإسراف ، أي منقطعا عن المقاصد سبب الفقر والمحسور في الأصل المنقطع عن السير من حسره السفر إذا بلغ منه أي أثر فيه ؛ والبعير الحسير هو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به ، ومنه قوله تعالى : { ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } أي كليل منقطع ، وقيل معناه نادما على ما سلف فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة ، وفيه نظر لأن الفاعل من الحسرة حسران ولا يقال محسورا إلا للملوم .

وفي المختار الحسرة شدة التلهف على الشيء الفائت ، تقول حسر على الشيء من باب طرب ، وحسره أيضا فهو حسير ، وحسره غيره تحسيرا . وعن سيار أبي الحكم قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بز من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس ، فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا : إنا نأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدوه قد فرغ منه ، فأنزل الله : { ولا تجعل يدك } الآية . أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر .

أقول ولا أدري كيف هذا فالآية مكية ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه ، على أن فتح العراق لم يكن إلا بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم .