قوله تعالى : { وقيل للذين اتقوا } وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه ، فيقولون : ساحر ، كاهن ، شاعر ، كذاب ، مجنون ، ولو لم تلقه خير ، فيقول السائل : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة فألقاه ، فيدخل مكة فيرى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث . فذلك قوله : { وقيل للذين اتقوا } { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } يعني : أنزل خيراً . ثم ابتدأ فقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } ، كرامة من الله . قال ابن عباس :هي تضعيف الأجر إلى العشر . وقال الضحاك : هي النصر والفتح . وقال مجاهد : هي الرزق الحسن . { ولدار الآخرة } ، أي ولدار الحال الآخرة ، { خير ولنعم دار المتقين } ، قال الحسن : هي الدنيا ، لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة . وقال أكثر المفسرين : هي الجنة ، ثم فسرها فقال { جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين } .
{ 30 - 32 ْ } { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ }
لما ذكر الله قيل المكذبين بما أنزل الله ، ذكر ما قاله المتقون ، وأنهم اعترفوا وأقروا بأن ما أنزله الله نعمة عظيمة ، وخير عظيم امتن الله به على العباد ، فقبلوا تلك النعمة ، وتلقوها بالقبول والانقياد ، وشكروا الله عليها ، فعلموها وعملوا لها { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ْ } في عبادة الله تعالى ، وأحسنوا إلى عباد الله فلهم { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ْ } رزق واسع ، وعيشه هنية ، وطمأنينة قلب ، وأمن وسرور .
{ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ْ } من هذه الدار وما فيها من أنواع اللذات والمشتهيات ، فإن هذه نعيمها قليل محشو بالآفات منقطع ، بخلاف نعيم الآخرة ولهذا قال : { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ْ }
فقوله - سبحانه - : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً . . } بيان لما رد به المؤمنون الصادقون ، على من سألهم عما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو معطوف على ما قبله ، للمقابلة بين ما قاله المتقون ، وما قاله المستكبرون .
ووصفهم بالتقوى ، للاشعار بأن صيانتهم لأنفسهم عن ارتكاب ما نهى الله - تعالى - عنه ، وخوفهم منه - سبحانه - ومراقبتهم له ، كل ذلك حملهم على أن يقولوا هذا القول السديد . وكلمة { خيرا } مفعول لفعل محذوف أى : أنزل خيرا . أى : رحمة وبركة ونورا وهداية ، إذ لفظ { خيرا } من الألفاظ الجامعة لكل فضيلة .
قال صاحب الكشاف : فان قلت لم نصب هذا ورفع الأول ؟ .
قلت : فَصْلاً بين جواب المقر وجواب الجاحد ، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإِنزال ، فقالوا خيرا . أى أنزل خيرا . وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس من الإِنزال فى شئ .
وقوله - سبحانه - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } جملة مستأنفة لبيان ماوعدهم به - تعالى - على أعمالهم الصالحة من أجر وثواب .
أى : هذه سنتنا فى خلقنا أننا نجازى الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن الكريم ، دون أن نضيع من أعمالهم شيئا .
وقوله { حسنة } صفة لموصوف محذوف أى : مجازاة حسنة بسبب أعمالهم الصالحة .
كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثم بين - سبحانه - جزاءهم فى الآخرة فقال : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } . والمراد بدار المتقين : الجنة ونعيمها .
و { خير } صيغة تفضيل ، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال على سبيل التخفيف ، كما قال ابن مالك :
وغالبا أغناهم خير وشر . . . عن قولهم أخير منه وأشر
ونعم : فعل ماض لإِنشاء المدح ، وهو ضد بئس .
والمعنى : ولدار الآخرة ومافيها من عطاء غير مقطوع ، خير لهؤلاء المتقين مما أعطيناهم فى الدنيا ، ولنعم دارهم هذه الدار . قال - تعالى - : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى } ووصفها - سبحانه - بالآخرة ، لأنها آخر المنازل ، فلا انتقال عنها إلى دار أخرى ، كما قال - تعالى - : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ما يدل عليه ، والتقدير : ولنعم دار المتقين ، دار الآخرة .
هذا خبر عن السعداء ، بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء ، فإن أولئك قيل لهم : { مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ } فقالوا معرضين عن الجواب : لم{[16405]} ينزل شيئًا ، إنما هذا{[16406]} أساطير الأولين . وهؤلاء { قَالُوا خَيْرًا } أي : أنزل خيرا ، أي : رحمة وبركة وحسنًا لمن اتبعه وآمن به .
ثم أخبروا عما وعد الله [ به ]{[16407]} عباده فيما أنزله على رسله فقالوا : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، أي : من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة .
ثم أخبر بأن دار الآخرة خير ، أي : من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ } [ القصص : 80 ]{[16408]} وقال تعالى : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } [ آل عمران : 198 ] وقال تعالى { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 17 ] ، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم{[16409]} : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى } [ الضحى : 4 ] .
ثم وصفوا الدار الآخرة فقالوا{[16410]} : { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ }
{ وقيل للذين اتقوا } يعني المؤمنين . { ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } أي أنزل خيرا ، وفي نصبه دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب ، وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة . روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك . { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } مكافأة في الدنيا . { ولدار الآخرة خير } أي ولثوابهم في الآخرة خير منها ، وهو عدة للذين اتقوا على قولهم ، ويجوز أن يكون بما بعده حكاية لقولهم بدلا وتفسيرا ل { خيرا } على أنه منتصب ب { قالوا } . { ولنعم دار المتقين } دار الآخرة فحذفت لتقدم ذكرها .