مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ} (30)

قوله تعالى : { اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ، جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } .

اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الأقوام الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : أساطير الأولين . وذكر أنهم يحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم ، وذكر أن الملائكة تتوفاهم ظالمي أنفسهم ، وذكر أنهم في الآخرة يلقون السلم ، وذكر أنه تعالى يقول لهم ادخلوا أبواب جهنم ، أتبعه بذكر وصف المؤمنين الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا خيرا ، وذكر ما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات ليكون وعد هؤلاء مذكورا مع وعيد أولئك وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال القاضي : يدخل تحت التقوى أن يكون تاركا لكل المحرمات فاعلا لكل الواجبات ، ومن جمع بين هذين الأمرين فهو مؤمن كامل الإيمان ، وقال أصحابنا : يريد الذين اتقوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأقول : هذا أولى مما قاله القاضي ، لأنا بينا أنه يكفي في صدق قوله : فلان قاتل أو ضارب كونه آتيا بقتل واحد وضرب واحد ، ولا يتوقف صدق هذا الكلام على كونه آتيا بجميع أنواع القتل وجميع أنواع الضرب ، فعلى هذا قوله : { وقيل للذين اتقوا } يتناول كل من أتى بنوع واحد من أنواع التقوى إلا أنا أجمعنا على أنه لا بد من التقوى عن الكفر والشرك فوجب أن لا يزيد على هذا القيد لأنه لما كان تقييد المطلق خلاف الأصل ، كان تقييد المقيد أكثر مخالفة للأصل ، وأيضا فلأنه تعالى إنما ذكر هؤلاء في مقابلة أولئك الذين كفروا وأشركوا ، فوجب أن يكون المراد من اتقى عن ذلك الكفر والشرك ، والله أعلم .

المسألة الثانية : لقائل أن يقول : إنه قال في الآية الأولى ، ( قالوا أساطير الأولين ) ، وفي هذه الآية ( قالوا خيرا ) ، فلم رفع الأول ونصب هذا ؟ .

أجاب صاحب «الكشاف » عنه بأن قال : المقصود منه الفصل بين جواب المقر وجواب الجاحد ، يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال فقالوا خيرا أي أنزل خيرا ، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء .

المسألة الثالثة : قال المفسرون هذا كان في أيام الموسم ، يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون : إنه ساحر وكاهن وكذاب ، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه فيقولون خيرا ، والمعنى : أنزل خيرا . ويحتمل أن يكون المراد الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير ، وقولهم خير جامع لكونه حقا وصوابا ، ولكونهم معترفين بصحته ولزومه فهو بالضد من قول الذين لا يؤمنون بالآخرة ، أن ذلك أساطير الأولين على وجه التكذيب .

المسألة الرابعة : قوله : { للذين أحسنوا } وما بعده بدل من قوله : { خيرا } وهو حكاية لقول الذين اتقوا ، أي قالوا هذا القول ، ويجوز أيضا أن يكون قوله : { للذين أحسنوا } إخبارا عن الله ، والتقدير : إن المتقين لما قيل لهم : { ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } ثم إنه تعالى أكد قولهم وقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } وفي المراد بقوله : { للذين أحسنوا } قولان ، أما الذين يقولون : إن أهل لا إله إلا الله يخرجون من النار فإنهم يحملونه على قول لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق ، وأما المعتزلة الذين يقولون : إن فساق أهل الصلاة لا يخرجون من النار يحملون قوله : { أحسنوا } على من أتى بالإيمان وجميع الواجبات واحترز عن كل المحرمات . وأما قوله : { في هذه الدنيا } ففيه قولان :

القول الأول : أنه متعلق بقوله : { أحسنوا } والتقدير : للذين اتقوا بعمل الحسنة في الدنيا فلهم في الآخرة حسنة ، وتلك الحسنة هي الثواب العظيم ، وقيل : تلك الحسنة هو أن ثوابها يضاعف بعشر مرات وبسبعمائة وإلى ما لا نهاية له .

والقول الثاني : أن قوله : { في هذه الدنيا } متعلق بقوله : { حسنة } والتقدير : للذين أحسنوا أن تحصل لهم الحسنة في الدنيا ، وهذا القول أولى ، لأنه قال بعده : { ولدار الآخرة خير } وعلى هذا التقدير ففي تفسير هذه الحسنة الحاصلة في الدنيا وجوه : الأول : يحتمل أن يكون المراد ما يستحقونه من المدح والتعظيم والثناء والرفعة ، وجميع ذلك جزاء على ما عملوه . والثاني : يحتمل أن يكون المراد به الظفر على أعداء الدين بالحجة وبالغلبة لهم ، وباستغنام أموالهم وفتح بلادهم ، كما جرى ببدر وعند فتح مكة ، وقد أجلوهم عنها وأخرجوهم إلى الهجرة ، وإخلاء الوطن ، ومفارقة الأهل والولد وكل ذلك مما يعظم موقعه . والثالث : يحتمل أن يكون المراد أنهم لما أحسنوا بمعنى أنهم أتوا بالطاعات فتح الله عليهم أبواب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى } .

وأما قوله : { ولدار الآخرة خير } فقد بينا في سورة الأنعام في قوله : { وللدار الآخرة خير للذين يتقون } بالدلائل القطعية العقلية حصول هذا الخير ، ثم قال : { ولنعم دار المتقين } أي لنعم دار المتقين دار الآخرة ، فحذفت لسبق ذكرها ، هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها ، فإن وصلتها بما بعدها قلت : ولنعم دار المتقين جنات عدن فترفع جنات على أنها اسم لنعم ، كما تقول : نعم الدار دار ينزلها زيد .