اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ} (30)

قوله تعالى : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } الآية .

لما بين أحوال الكافرين ، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين .

قال القاضي [ المتقي هو : ]{[19800]} تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات .

وقال غيره : المتَّقي : هو الذي يتَّقي الشرك .

قوله : " خَيْراً " العامة على نصبه ، أي : أنزل خيراً .

قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : لِمَ رفع " أسَاطِيرُ الأولين " ونصب هذا ؟ .

قلت : فصلاً بين جواب المقر ، وجواب الجاحد ، يعني : أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف " قَالُوا خَيْراً " أي : أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال ، فقالوا : هو أساطير الأوَّلين ، وليس هو من الإنزال في شيءٍ " .

وقرأ زيد{[19801]} بن عليٍّ : " خَيْرٌ " بالرفع ، أي : المُنزَّلُ خيرٌ ، وهي مُؤيِّدة لجعل " مَاذَا " موصولة ، وهو الأحسن ؛ لمطابقة الجواب لسؤاله ، وإن كان العكس جائزاً ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة .

قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } هذه الجملة يجوز فيها أوجه :

أحدها : أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك .

الثاني : أنَّها بدلٌ من " خَيْراً " . قال الزمخشري : " هو بدلٌ من " خَيْراً " ؛ حكاية لقول " الَّذينَ اتَّقوا " ، أي : قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه " .

الثالث : أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله : " خَيْراً " ، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه : من أحسن في الدنيا بالطاعةِ ؛ فله حسنةٌ في الدنيا ، وحسنةٌ في الآخرة .

وقوله : { فِي هذه الدنيا } الظاهر تعلقه ب " أحْسَنُوا " ، أي : أوقعوا الحسنة في دار الدنيا ، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من " حَسنةً " ، إذ لو تأخر ؛ لكان صفة لها ، ويضعف تعلقه بها نفسها ؛ لتقدمه عليها .

فصل

قال المفسرون : إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء [ سائل ]{[19802]} المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون : ساحر ، وكاهن ، وشاعر وكذاب ، كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ؛ فيقولون " خَيْراً " ، أي أنزل خيراً ، ثم ابتدأ فقال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي كرامة من الله .

قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة{[19803]} . وقال الضحاك : هي النصرة والفتح{[19804]} . وقال مجاهدٌ : هي الرزقُ الحسن{[19805]} ، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ .

وقولهم " خَيْراً " جامع لكونه حقاً وصواباً ، ولكونهم معترفين بصحته ، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون : إن ذلك أساطير الأولين . وتقدم الكلام على " خَيْرٌ " في سورة الأنعام في قوله تعالى : { وَلَلدَّارُ الآخرةُ خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] .

ثم قال تعالى : { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ } ، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت ؛ لسبق ذكرها .

هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها ، فإن وصلتها بما بعدها قلت : { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ } برفع " جَنَّاتُ " على أنها اسم ل " نِعْمَ " كما تقول : نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ .


[19800]:سقط من: ب.
[19801]:ينظر: البحر المحيط 5/473 ، الدر المصون 4/324..
[19802]:في ب: لشأن.
[19803]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/67).
[19804]:ينظر: المصدر السابق.
[19805]:ينظر: المصدر السابق.