قوله تعالى : { فطوعت له نفسه قتل أخيه } ، أي : طاوعته وشايعته وعاونته { قتل أخيه } ، في قتل أخيه ، وقال مجاهد : فشجعته ، وقال قتادة : فزينت له نفسه ، وقال يمان : سهلت له ذلك ، أي : جعلته سهلاً . تقديره : صورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له ، أي سهل عليه ، فقتله ، فلما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله ، قال ابن جريج : فتمثل له إبليس ، وأخذ طيراً ، فوضع رأسه على حجر ، ثم شدخ رأسه بحجر آخر ، وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل ، فرضخ قابيل رأسه هابيل بين حجرين ، قيل : قتل وهو مستسلم ، وقيل : اغتاله وهو في النوم ، فشدخ رأسه فقتله ، وذلك قوله تعالى : { فقتله فأصبح من الخاسرين } ، وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة . واختلفوا في موضع قتله قال ابن عباس رضي الله عنهما : على جبل ثور ، وقيل عند عقبة حراء ، فلما قتله تركه بالعراء ، ولم يدر ما يصنع به ، لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم ، وقصدته السباع ، فحمله في جراب على ظهره أربعين يوماً ، وقال ابن عباس : سنةً ، حتى أروح ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله ، فبعث الله غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه في الحفرة وواراه ، وقابيل ينظر إليه .
فلم يرتدع ذلك الجاني ولم ينزجر ، ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها ، حتى طوعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه .
{ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دنياهم وآخرتهم ، وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل .
" ومن سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " . ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه " ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول شطر من دمها ، لأنه أول من سن القتل " .
لقد بين الله ذلك بقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } .
قال القرطبي : قوله { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } : أي : سولت وسهلت نفسه له الأمر . وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل . يقال : طاع الشيء يطوع أي : سهل وانقاد . " وطوعه فلان له أي سهله " .
والمعنى : أن قابيل سهلت له نفسه وزينت له - بعد هذه المواعظ - { قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } في دنياه وفي أخراه .
وأصبح من الخاسرين في آخرته ، لأنه ارتكب جريمة من أكبر الجرائم وأشنعها وقد توعد الله مرتكبها بالغضب واللعنة والعذاب العظيم .
والتعبير بقوله - تعالى ( فطوعت ) تعبير دقيق بليغ ، فإن هذه الصيغة - صيغة التفعيل - تشير إلى أنه كانت هناك بواعث متعددة تتجاذب نفسه ، كانت هناك بواعث الشر التي تدعوه إلى الإقدام على قتله ، ودوافع الخير التي تمنعه من الاقدام على قتل أخيه ، وأخيراً تغلبت دوافع الشر على دوافع الخير فقتل أخاه .
وقد صور الإِمام الرازي هذا المعنى تصويرا حسنا فقال :
قال المفسرون : فطوعت ، أي : سهلت له نفسه قتل أخيه ، وتحقيق الكلام أن الإِنسان إذا تصور القتل العمد العدوان وكونه من أعظم الكبائر فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يطيعه بوجه ألبتة . فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها ، صار هذا الفعل سهلا عليه ، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجييبة هذا الفعل كالمطيع له ، بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه ، فهذا هو المراد بقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } .
هذا ، والآية الكريمة بعد كل ذلك ، تشير إلى شناعة الجريمة في ذاتها من حيث الباعث عليها ، إذا الباعث عليها هو الحسد ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول إذ هي صلة أخوة تقتضي المحبة والمودة والتراحم ومن حيث ذات الفعل فإنه أكبر جريمة بعد الإشراك بالله - تعالى - .
قال الآلوسي : أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها . لأنه أول من سن القتل " وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : " إنا لنجد ابن آدم القاتل ، يقاسم أهل النار العذاب . عليه شطر عذابهم " .
وقوله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : فحسنت{[9657]} وسوّلت له نفسه ، وشجعته على قتل أخيه فقتله ، أي : بعد هذه الموعظة وهذا الزجر .
وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر ، وهو محمد بن علي بن الحسين : أنه قتله بحديدة في يده .
وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال ، فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له ، وهو نائم فرفع صخرة ، فشدخ بها رأسه فمات ، فتركه بالعَرَاء . رواه ابن جرير .
وعن بعض أهل الكتاب : أنه قتله خنقًا وعضًا ، كما تَقْتُل{[9658]} السباع ، وقال ابن جرير{[9659]} لما أراد أن يقتله جعل{[9660]} يلوي عنقه ، فأخذ إبليس دابة ووضع{[9661]} رأسها على حجر ، ثم أخذ حجرًا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها ، وابن آدم ينظر ، ففعل بأخيه مثل ذلك . رواه ابن أبي حاتم .
وقال عبد الله بن وَهْب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : أخذ برأسه ليقتله ، فاضطجع له ، وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله ، فجاءه{[9662]} إبليس فقال : أتريد أن تقتله ؟ قال : نعم . قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه . قال : فأخذها ، فألقاها عليه ، فشَدَخ رأسه . ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعًا ، فقال : يا حواء ، إن قابيل قتل هابيل . فقالت له : ويحك . أيّ{[9663]} شيء يكون القتل ؟ قال : لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك . قالت : ذلك الموت . قال : فهو الموت . فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح ، فقال : ما لك ؟ فلم تكلمه ، فرجع{[9664]} إليها مرتين ، فلم تكلمه . فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك ، وأنا وبنيّ منها برآء . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : في الدنيا والآخرة ، وأيّ خسارة أعظم من هذه ؟ . و قد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية{[9665]} ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُقتَل نفس ظلمًا ، إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل " .
وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق ، عن الأعمش ، به . {[9666]}
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج قال : قال ابن جُرَيْج : قال مجاهد : عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج - قال : وقال عبد الله بن عمرو : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابِ ، عليه شطر عذابهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول : إن أشقى أهل النار{[9667]} رجلا ابن آدم الذي قتل أخاه ، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة ، إلا لحق به منه شر ، وذلك أنه أول من سَنّ القتل . {[9668]}
وقال إبراهيم النخعي : ما من مقتول يقتل ظلما ، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كِفْل منه .
{ فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله فَطَوّعَتْ : فأقامته وساعدته عليه . وهو «فَعّلْت » من الطوع ، من قول القائل : طاعني هذا الأمر : إذا انقاد له .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : فشجعت له نفسه قتل أخيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ومحمد بن حميد ، قالا : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن أبي ليلى ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قال : شجعت .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قال : فشجعته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ قال : شجعته على قتل أخيه .
وقال آخرون : معنى ذلك : زينت له . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قال : زينت له نفسه قتل أخيه ، فقتله .
ثم اختلفوا في صيغة قتله إياه كيف كانت ، والسبب الذي من أجله قتله . فقال بعضهم : وجده نائما فشَدَخ رأسه بصخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فيما ذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس . وعن مرّة ، عن عبد الله . وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلُ أخيهِ فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال . وأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له في جبل وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه ، فمات ، فتركه بالعراء .
حدثني محمد بن عمر بن عليّ ، قال : سمعت أشعث السجِستاني يقول : سمعت ابن جريج قال : ابن آدم الذي قتل صاحبه لم يدر كيف يقتله ، فتمثل إبليس له في هيئة طير ، فأخذ طيرا فقصع رأسه ، ثم وضعه بين حجرين فشدَخَ رأسه ، فعلّمه القتل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قتله حيث يرعى الغنم ، فأتى فجعل لا يدري كيف يقتله ، فَلَوى برقبته وأخذ برأسه . فنزل إبليس ، وأخذ دابة أو طيرا ، فوضع رأسه على حجر ، ثم أخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه ، وابن آدم القاتل ينظر ، فأخذ أخاه ، فوضع رأسه على حجر وأخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا رجل سمع مجاهدا يقول ، فذكر نحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لما أكلت النار قربان ابن آدم الذي تقبّل قربانه ، قال الاَخر لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قرّبت قربانا فتقبل منك وردّ عليّ ؟ والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك فقال له أخوه : ما ذنبي إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ ؟ فخوّفه بالنار ، فلم ينته ولم ينزجر ، فطوّعت له نفسه قتل أخيه ، فقتله فأصبح من الخاسرين .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، قال : أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجمرة وهو متقنع متوكىء على يديّ ، حتى إذا وازينا بمنزل سمرة الصرّاف ، وقف يحدثني عن ابن عباس ، قال : نهى أن ينكح المرأة أخوها توأمها وينكحها غيره من إخوتها ، وكان يولد في كلّ بطن رجل وامرأة ، فولدت امرأة وسيمة ، وولدت امرأة دميمة قبيحة ، فقال أخو الدميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي قال : لا ، أنا أحقّ بأختي . فقرّبا قربانا فتقبل من صاحب الكبش ، ولم يتقبل من صاحب الزرع ، فقتله . فلم يزل ذلك الكبش محبوسا عند الله حتى أخرجه في فداء إسحاق ، فذبحه على هذا الصفا في ثَبِيِر عند منزل سَمُرة الصراف ، وهو على يمينك حين ترمي الجمار . قال ابن جريج : وقال آخرون بمثل هذه القصة . قال : فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء ، فنكح ابنة عمه ، وذهب نكاح الأخوات .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عزّ ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه ، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفته قتله إياه . وجائز أن يكون على نحو ما قد ذكر السديّ في خبره ، وجائز أن أن يكون كان على ما ذكره مجاهد ، والله أعلم أيّ ذلك كان ، غير أن القتل قد كان لا شكّ فيه .
وأما قوله : فأصْبَحَ مِنَ الخاسِرِينَ فإن تأويله : فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم من حزب الخاسرين ، وهم الذين باعو آخرتهم بدنياهم بإيثارهم إياها عليها فوُكسوا في بيعهم وغُبنوا فيه ، وخابوا في صفقتهم .
قراءة الجمهور { فطوعت } والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس ، فردته هذه النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى واقعه صاحب هذه النفس{[4511]} ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد «فطاوعت » والمعنى كأن القتل يدعو إلى نفسه بسبب الحقد والحسد الذي أصاب قابيل ، وكأن النفس تأبى لذلك ويصعب عليها ، وكل جهة تريد أن تطيعها الأخرى ، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فواقعته ، وروي أنه التمس الغرة في قتله حتى وجده نائماً في غنمه فشدخ رأسه بحجر ، وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل ، وروي أنه لما انصرف قابيل إلى آدم قال له أين هابيل قال لا أدري كأنك وكلتني بحفظه فقال له آدم أفعلتها والله إن دمه ليناديني من الأرض ، اللهم العن أرضاً شربت دم هابيل ، فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دماً ، ثم أن آدم صلى الله عليه وسلم بقي مائة عام لم يبتسم حتى جاء ملك فقال له حياك الله يا آدم وبياك فقال آدم : ما بياك ؟ قال أضحكك . ويروى أن آدم عليه السلام قال حينئذ :
تغيرت البلادُ ومن عليها . . . فوجه الأرض مغبرٌّ قبيح
تغير كل ذي طعم ولون . . . وقل بشاشة الوجه المليح
وكذا هو الشعر بنصب بشاشة وكف التنوين ، وروي عن مجاهد أنه قال : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج .
فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى : { فأصبح من الخاسرين } : ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال إنّا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم ، ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها{[4512]} ، وذلك أنه أول من سن القتل » وقوله : { فأصبح } عبارة عن جميع أوقاته ، أقيم بعض الزمن مقام كله ، وخصّ الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومطية النشاط ، ومنه قول الربيع بن ضبع :
أصبحت لا أحمل السلاح . . . البيت ،
ومنه قول سعد بن أبي وقاص ، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام ، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله "فَطَوّعَتْ": فأقامته وساعدته عليه. وهو «فَعّلْت» من الطوع، من قول القائل: طاعني هذا الأمر: إذا انقاد له.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: فشجعت له نفسه قتل أخيه.
وقال آخرون: معنى ذلك: زينت له.
ثم اختلفوا في صيغة قتله إياه كيف كانت، والسبب الذي من أجله قتله؛ فقال بعضهم: وجده نائما فشَدَخ رأسه بصخرة.
وقال بعضهم: [عن] ابن جريج قال: ابن آدم الذي قتل صاحبه لم يدر كيف يقتله، فتمثل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرا فقصع رأسه، ثم وضعه بين حجرين فشدَخَ رأسه، فعلّمه القتل.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عزّ ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفته قتله إياه... غير أن القتل قد كان لا شكّ فيه.
"فأصْبَحَ مِنَ الخاسِرِينَ": فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم من حزب الخاسرين، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم بإيثارهم إياها عليها فوُكسوا في بيعهم وغُبنوا فيه، وخابوا في صفقتهم.
قوله تعالى: {فأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ} يعني خسر نفسه بإهلاكه إياها، لقوله تعالى: {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} [الزمر: 15] ولا دلالة في قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ} على أن القتل كان ليلاً، وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلاً وجائز أن يكون نهاراً،...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تستولي هواجس النفوس على صاحبها إلا بعد استتار مواعظ الحق، فإذا توالت العزائمُ الرديئةُ، واستحكمت القصودُ الفاسدةُ من العبد صارت دواعي الحق خفيةً مغمورةً. والنَّفْسُ لا تدعو إلا إلى اتباع الشهوات ومتابعة المعصية، وهي مجبولةٌ على الأخلاق المجوسية. فمن تابع الشهوات لا يلبث أن ينزل بساحات الندم ثم لا ينفعه ذلك...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فطوعت له نفسه قتل أخيه} سهلته.. {فقتله فأصبح من الخاسرين} خسر دنياه بإسخاط والديه وآخرته بسخط الله عليه فلما قتله لم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قراءة الجمهور {فطوعت} والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس، فردته هذه النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى واقعه صاحب هذه النفس،...
قال المفسرون: سهلت له نفسه قتل أخيه. ومنهم من قال شجعته، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر، فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله، فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه البتة، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلا عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه. فهذا هو المراد بقوله {فطوعت له نفسه قتل أخيه}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فماذا كان من تأثير هذه المواعظ، في نفس ذلك الحاسد الظالم؟ بين الله ذلك بقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}.
فسروا طوعت ب"شجعت" وهو مأثور عن ابن عباس ومجاهد، وب"وسعت" وسهلت وزينت، ونحو ذلك من الألفاظ التي رويت عن مفسري السلف وعلماء اللغة، وكل منها يشير إلى حاصل المعنى في الجملة، ولم أر أحدا شرح بلاغة هذه الكلمة في هذا الموضع ببعض ما أجد لها من تأثير في نفسي. وإنها لبمكان من البلاغة يحيط القلب ويضغط عليه من كل جانب. {ق، والقرآن المجيد} [ق: 1] إنني أكتب الآن، وقلبي يشغلني عن الكتابة بما أجد لها من الأثر والانفعال. إن هذه الكلمة تدل على تدريج وتكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام، يفكر في كل في كلمة من كلمات أخيه الحكيمة، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، يدعم ويؤيد ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة والهيبة، فيكر الحسد من نفسه الأمارة، على كل منها ويجذبه إلى الطاعة، فإطاعة صوارف الفطرة وصوارف الموعظة، لداعي الحسد هو التطويع الذي عناه الله تعالى، فلما تم كل ذلك قتله.
وهذا المعنى يدل عليه اللفظ، ويؤيده ما يعرف من حال البشر في كل عصر، بمقتضٍ، فنحن نرى من أحوال الناس واختبار القضاة للجناة، أن كل من تحدثه نفسه بقتل أخ له من أبيه القريب أو البعيد (آدم) يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن ذلك، فيتعارض المانع والمقتضى في نفسه زمنا طويلا أو قصيرا حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح المقتضي عنده على الموانع، فعند ذلك يقتل إن قدر. فالتطويع لا بد فيه من التكرار كتذليل الحيوان الصعب، وتعليم الصناعة أو العلم. وقد يكون التكرار لأجل إطاعة مانع أو صارف واحد، وقد يكون لإطاعة عدة صوارف وموانع. وأقرب الألفاظ التي قيلت إلى هذا المعنى كلمة التشجيع المأثورة، فهي تدل على أنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه، فما زالت نفسه الأمارة بالسوء تشجعه عليه حتى تجزأ وقتل عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر للعاقبة {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي من جنس الذين خسروا أنفسهم بإفساد فطرتها، وخسروا أقرب الناس إليهم وأبرهم بهم في الدنيا، وهو الأخ الصالح التقي، وخسروا نعيم الآخرة إذا لم يعودوا أهلا لها لأنها دار المتقين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد هذا كله. بعد التذكير والعظة والمسالمة والتحذير. بعد هذا كله اندفعت النفس الشريرة، فوقعت الجريمة. وقعت وقد ذللت له نفسه كل عقبة، وطوعت له كل مانع.. طوعت له نفسه القتل.. وقتل من؟ قتل أخيه.. وحق عليه النذير: (فأصبح من الخاسرين).. خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك. وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق. وخسر دنياه فما تهنأ للقاتل حياة. وخسر آخرته فباء بأثمه الأول وإثمه الأخير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دلّت الفاء على التفريع والتعقيب، ودلّ (طَوّع) على حدوث تردّد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحَسد ودافع الخشية، فعلمنا أنّ المفرّع عنه محذوف، تقديره: فتردّد مَليّاً، أو فترصّد فُرصاً فَطوّعت له نفسه. فقد قيل: إنّه بقي زماناً يتربّص بأخيه، (وطوّع) معناه جعله طائعاً، أي مكَّنه من المطوّع. والطوع والطواعية: ضدّ الإكراه، والتطويع: محاولة الطوع. شُبّه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقّل والخشيةِ. وشبّهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلّل له القتل المتعاصي، فكان (طوّعت) استعارة تمثيلية، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أنّ نفس قابيل سَوّلت له قتل أخيه بعد ممانعة...