قوله تعالى :{ والتي أحصنت فرجها } حفظت من الحرام وأراد مريم بنت عمران ، { فنفخنا فيها من روحنا } أي أمرنا جبرائيل حتى نفخ في جيب درعها ، وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه تشريفاً لعيسى عليه السلام ، { وجعلناها وابنها آية للعالمين } أي دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب ، ولم يقل آيتين وهما آيتان لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية ولأن الآية كانت فيهما واحدة ، وهي أنها أتت به من غير فحل .
{ 91 - 94 } { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ }
أي : واذكر مريم ، عليها السلام ، مثنيا عليها مبينا لقدرها ، شاهرا لشرفها فقال : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : حفظته من الحرام وقربانه ، بل ومن الحلال ، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة ، واستغراق وقتها بالخدمة لربها .
وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } فجازاها الله من جنس عملها ، ورزقها ولدا من غير أب ، بل نفخ فيها جبريل عليه السلام ، فحملت بإذن الله .
{ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } حيث حملت به ، ووضعته من دون مسيس أحد ، وحيث تكلم في المهد ، وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة ، وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات ما هو معلوم ، فكانت وابنها آية للعالمين ، يتحدث بها جيلا بعد جيل ، ويعتبر بها المعتبرون .
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء الأنبياء الكرام ، بذكر جانب من قصة مريم وابنها عيسى فقال : { والتي أَحْصَنَتْ . . . } .
وقوله : { أَحْصَنَتْ } من الإحصان بمعنى المنع ، يقال : هذه درع حصينة أى : مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال : هذه امرأة حصينة ، أى : مانعة نفسها من كل فاحشة بسبب عفتها أو زواجها .
أى : واذكر - أيضا أيها المخاطب خبر مريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها ، أى : حفظته ومنعته من النكاح منعا كليا . والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عن السوء .
{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أى : فنفخنا فيها من جهة روحنا ، وهو جبريل - عليه السلام - حيث أمرناه بذلك فامتثل أمرنا ، فنفخ فى جيب درعها ، فكان بذلك عيسى ابنها ، ويؤيد هذا التفسير قوله - تعالى - فى سورة مريم : { قَالَ } - أى جبريل لمريم - { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } أى : لأكون سببا فى هبة الغلام لك عن طريق النفخ فى درعك فيصل هذا النفخ إلى الفرج فيكون الحمل بعيسى بإذن الله وإرادته .
والمراد بالآية فى قوله - سبحانه - : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } : الأمر الخارق للعادة ، الذى لم يسبقه ولم يأت بعده ما يشابهه .
أى : وجعلنا مريم وابنها عيسى آية بينة ، ومعجزة واضحة دالة على كمال قدرتنا للناس جميعا ، إذ جاءت مريم بعيسى دون أن يمسها بشر ، ودون أن تكون بغيا .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : هلا قيل آيتين كما قال - سبحانه - : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } قلت : لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة . وهى ولادتها إياه من غير فحل " .
هكذا قَرَن تعالى{[19848]} قصة مريم وابنها عيسى ، عليه السلام ، بقصة زكريا وابنه يحيى ، عليهما السلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ؛ لأن تلك مُوَطّئة لهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر . هكذا وقع في سورة " آل عمران " ، وفي سورة " مريم " ، وهاهنا ذكر قصة زكريا ، ثم أتبعها بقصة مريم ، فقوله : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } يعني : مريم ، عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : دلالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . وهذا كقوله : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد عن شَبِيب{[19849]} - يعني ابن بشر{[19850]} - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { لِلْعَالَمِينَ } قال : العالمين : الجن والإنس .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر التي أحصنت فرجها ، يعني مريم بنت عمران . ويعني بقوله : أحْصَنَتْ : حفظت ، ومنعت فرجها مما حرّم الله عليها إباحته فيه .
واختُلف في الفرّج الذي عنى الله جلّ ثناؤه أنها أحصنته ، فقال بعضهم : عَنَى بذلك فَرْجَ نفسها أنها حفظته من الفاحشة .
وقال آخرون : عَنَى بذلك جيب درعها أنها منعت جبرئيل منه قبل أن تعلم أنه رسول ربها وقبل أن تثبته معرفة . قالوا : والذي يدلّ على ذلك قوله : فَنَفَخْنا فِيها ويعقب ذلك قوله : والّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها قالوا : وكان معلوما بذلك أن معنى الكلام : والتي أحصنت جيبها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى القولين عندنا بتأويل ذلك قول من قال : أحصنت فرجها من الفاحشة لأن ذلك هو الأغلب من معنييه عليه والأظهر في ظاهر الكلام . فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا يقول : فنفخنا في جيب درعها من روحنا . وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في معنى قوله : فَنَفَخْنا فِيها في غير هذا الموضع والأولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً للْعَالمِينَ يقول : وجعلنا مريم وابنها عبرة لعالمي زمانهما يعتبرون بهما ويتفكرون في أمرهما ، فيعلمون عظيم سلطاننا وقُدرتنا على ما نشاء وقيل «آية » ولم يقل «آيتين » وقد ذكر آيتين لأن معنى الكلام : جعلناهما عَلَما لنا وحجة ، فكل واحدة منهما في معنى الدلالة على الله وعلى عظيم قُدرته يقوم مقام الاَخر ، إذْ كان أمرهما في الدلالة على الله واحدا .
{ والتي أحصنت فرجها } من الحلال والحرام يعني مريم . { فنفخنا فيها } أي في عيسى عليه الصلاة والسلام فيها أي أحييناه في جوفها ، وقيل فعلنا النفخ فيها . { من روحنا } من الروح الذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه الصلاة والسلام . { وجعلناها وابنها } أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله : { آية للعالمين } فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى .
لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة ، كما قال الله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] الآية . هذه هي مريم ابنة عمران . وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالباً ، وأيضاً لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكاً وزُوراً ، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى : { فنفخنا فيها من روحنا } الذي هو في حكم الصلة أيضاً ، فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا ، لأن كلا الأمرين مُوجب ثناء . وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيممِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون قربان ذكر ، ليرى الناس مثالاً من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له { كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] .
والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين . وأطلق هنا تمثيلاً لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيهاً لِهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ . وقد قيل : إن الملَك نفخَ مما هو لَه كالفم .
والظرفية المفادة ب ( في ) كونُ مريم ظرفاً لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل { فيها } ولم يقل ( فيه ) للإشارة إلى أن الحمل الذي كُوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها . وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة .
والروح : هو القوة التي بها الحياة ، قال تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } [ الحجر : 29 ] ، أي جعلت في آدم روحاً فصار حَياً . وحَرف ( مِن ) تبعيضي ، والمنفوخ رُوح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة .
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي .
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [ سورة المؤمنين : 50 ] { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو : { والليل إذا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها } [ الشمس : 12 ] .
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس . وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية عُلِم أن كل واحد آيةٌ خاصة . ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة ، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والتي أحصنت فرجها} من الفواحش، لأنها قُذفت، وهي مريم بنت عمران، أم عيسى، صلى الله عليهما، {فنفخنا فيها من روحنا} نفخ جبريل، عليه السلام، في جيبها، فحملت من نفخة جبريل بعيسى، صلى الله عليهم، {وجعلناها وابنها} عيسى، صلى الله عليه، {آية للعالمين} يعني: عبرة... فكانا آية إذ حملت مريم، عليها السلام، من غير بشر، وولدت عيسى من غير أب، صلى الله عليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ويعني بقوله: أحْصَنَتْ: حفظت، ومنعت فرجها مما حرّم الله عليها إباحته فيه.
واختُلف في الفرج الذي عنى الله جلّ ثناؤه أنها أحصنته، فقال بعضهم: عَنَى بذلك فَرْجَ نفسها أنها حفظته من الفاحشة. وقال آخرون: عَنَى بذلك جيب درعها أنها منعت جبرئيل منه قبل أن تعلم أنه رسول ربها وقبل أن تثبته معرفة. قالوا: والذي يدلّ على ذلك قوله: فَنَفَخْنا فِيها ويعقب ذلك قوله: والّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها قالوا: وكان معلوما بذلك أن معنى الكلام: والتي أحصنت جيبها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا.
والذي هو أولى القولين عندنا بتأويل ذلك قول من قال: أحصنت فرجها من الفاحشة لأن ذلك هو الأغلب من معنييه عليه والأظهر في ظاهر الكلام...
"وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً للْعَالمِينَ": وجعلنا مريم وابنها عبرة لعالمي زمانهما يعتبرون بهما ويتفكرون في أمرهما، فيعلمون عظيم سلطاننا وقُدرتنا على ما نشاء. وقيل «آية» ولم يقل «آيتين» وقد ذكر آيتين لأن معنى الكلام: جعلناهما عَلَما لنا وحجة، فكل واحدة منهما في معنى الدلالة على الله وعلى عظيم قُدرته يقوم مقام الآخر، إذْ كان أمرهما في الدلالة على الله واحدا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والتي أحصنت فرجها} أي عفت فرجها.
{فنفخنا فيها من روحنا}... أي أنشأنا فيها من روحنا، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
أي أمرنا جبرئيل حتى نفخ في جيب درعها وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه على معنى الملك والتشريف لمريم وعيسى بتخصيصها بالإضافة إليه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} لأنها حملت من غير مسيس، ووُلد عيسى من غير ذَكَرٍ، مع كلامه في المهد، ثم شهادته ببراءتها من الفاحشة، فكانت هذه هي الآية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وكان النفخُ من جبريل عليه السلام، ولكن لمَّا كان بأمره -سبحانه- صحَّتْ الإضافةُ إليه... وإضافة الروح إلى نفسه على جهة التخصيص...
{آية للعالمين}: وإن لم يهتد بهما جميعُ الناس، لكنهما كانا آيةً. ومَنْ نَظَرَ في أمرهما، ووضَعَ النظرَ مَوضِعَه لاهتدى، وإذا أعرض ولم ينظر فالآية لا تخرج عن كونها حُجَّةً ودلالةً بتقصير المُقَصِّر في بابها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأراد تعالى أَنه جعل مجموع قصة عيسى وقصة مريم من أولها إلى آخرها {آية} لمن اعتبر ذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هكذا قَرَن تعالى قصة مريم وابنها عيسى، عليه السلام، بقصة زكريا وابنه يحيى، عليهما السلام، فيذكر أولا قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم؛ لأن تلك مُوَطّئة لهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر. هكذا وقع في سورة "آل عمران"، وفي سورة "مريم"، وهاهنا ذكر قصة زكريا، ثم أتبعها بقصة مريم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والتي أحصنت فرجها} أي حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدث به، لأنه غاية في العفة والصيانة، والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة، مع ما جمعت إلى ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة {فنفخنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يداني أوجها نقص، ولا يقرب من ساحتها حاجة ولا وهن {فيها} أي في فرجها -كما في التحريم، نفخاً هو من جناب عظمتنا؛ ودل على عظم خلوصه وصفائه بقوله: {من روحنا} أي من روح يحق له أن يضاف إلينا لجلالته وطهارته، فكان من ذلك النفخ حبل وولد. ولعله أضاف هنا النفخ إليها، لا إلى فرجها وحده، ليفيد أنه- مع خلق عيسى عليه السلام به وإفاضة الحياة عليه حساً ومعنى -أحياها هي به معنى بأن قوى به معانيها القلبية حتى كانت صديقة متأهلة لزواجها بخير البشر في الجنة، وخصت هذه السورة بهذا لأن مقصودها الدلالة على البعث الذي هو إفاضة الأرواح على الأموات.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والتعبيرُ عنها بالموصول لتفخيم شأنِها وتنزيهها عما زعموه في حقها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا يذكر هنا اسم مريم، لأن المقصود في سلسلة الأنبياء هو ابنها -عليه السلام- وقد جاءت هي تبعا له في السياق. إنما يذكر صفتها المتعلقة بولدها... (وجعلناها وابنها آية للعالمين). وهي آية غير مسبوقة ولا ملحوقة. آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا. ذلك أن المثل الواحد من هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها جميعا؛ وتدرك يد القدرة الطليقة التي تخلق النواميس، ولكنها لا تحتبس داخل النواميس.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالباً، وأيضاً لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكاً وزُوراً، وليبني على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى: {فنفخنا فيها من روحنا} الذي هو في حكم الصلة أيضاً، فكأنه قيل: والتي نفخنا فيها من روحنا، لأن كلا الأمرين مُوجب ثناء. وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيمِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون قربان ذكر، ليرى الناس مثالاً من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له {كن فيكون} [آل عمران: 59].
والنفخ، حقيقته: إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين. وأطلق هنا تمثيلاً لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة؛ تشبيهاً لِهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ... والظرفية المفادة ب (في) كونُ مريم ظرفاً لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه، ولذلك قيل {فيها} ولم يقل (فيه) للإشارة إلى أن الحمل الذي كُوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد، كأنه قيل: فنفخنا في بطنها. وذلك أعرق في مخالفة العادة؛ لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.
والروح: هو القوة التي بها الحياة، قال تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29]، أي جعلت في آدم روحاً فصار حَياً. وحَرف (مِن) تبعيضي، والمنفوخ رُوح؛ لأنه جعل بعض روح الله، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة...
وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية عُلِم أن كل واحد آيةٌ خاصة. ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل...