ولما استدل على الساعة بما وهب لهؤلاء القوم من أهل الطاعة من التصرف في{[51654]} العناصر وغيرها إلى أن ذكر أنه خرق العادة في إيداع يحيى عليه الصلاة والسلام بين والدين لا يولد لمثلهما لأن أباه زكريا عليه السلام كان قد صار إلى{[51655]} حالة الكبر ويبس{[51656]} من{[51657]} الأعضاء عظيمة ، وأمه كانت - مع وصولها إلى مثل{[51658]} تلك الحال - عاقراً في حال شبابها ، تلاه بإبداع ابن خالته عيسى عليه السلام الذي هو علم للساعة على حال أغرب من حاله ، فأخرجه من أنثى بلا ذكر ، إشارة إلى قرب الوقت لضعف الأمر ، كضعف الأنثى بالنسبة إلى الذكر ، فقال : { والتي أحصنت فرجها } أي حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدث به ، لأنه غاية في العفة والصيانة ، والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة ، مع ما جمعت إلى ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة { فنفخنا } {[51659]} أي بما{[51660]} لنا من العظمة التي لا يداني {[51661]} أوجها نقص{[51662]} ، ولا يقرب من ساحتها حاجة ولا وهن { فيها } أي في فرجها - كما في التحريم{[51663]} ، نفخاً هو من جناب عظمتنا ؛ ودل على عظم خلوصه وصفائه بقوله{[51664]} : { من روحنا } أي من روح يحق له أن يضاف إلينا لجلالته وطهارته ، فكان من ذلك النفخ{[51665]} حبل وولد .
{[51666]} ولعله أضاف هنا{[51667]} النفخ إليها ، لا إلى فرجها وحده ، ليفيد أنه - مع خلق عيسى عليه السلام به وإفاضة الحياة عليه حساً ومعنى{[51668]} - أحياها هي به معنى{[51669]} بأن قوى به معانيها{[51670]} القلبية حتى كانت صديقة متأهلة لزواجها بخير البشر في الجنة ، وخصت هذه السورة بهذا لأن{[51671]} مقصودها الدلالة على البعث الذي هو إفاضة الأرواح على الأموات ، قال الرازي : وعلى الجملة هذه عبارة عن إبداع عيسى عليه السلام في رحم مريم عليها السلام من غير نطفة .
ولما قدمته من السر في إفاضة النفخ إلى حملتها ، أتبع ذلك قوله{[51672]} : { وجعلناها {[51673]} وابنها{[51674]} } {[51675]} أي بتلك العظمة العظمى{[51676]} { آية } جعلهما نفس الآية لكثرة ما كان فيهما{[51677]} من الأعاجيب . ولما كان ما فيهما{[51678]} من ذلك ليس مقصوداً{[51679]} لذاته ، بل لتقرير{[51680]} أمر عيسى عليه السلام{[51681]} ، لم يقل : آيتين ، أو لئلا يظن أن نفس العدد مقصود فينقص المعنى { للعالمين* } أي في {[51682]} أن الله{[51683]} قادر على كل شيء {[51684]} لا سيما البعث الذي هو آيته{[51685]} ، يتحدث بذلك بعدهما جيل بعد جيل ، وعالم بعد عالم ، وأمة بعد أمة ، إلى قيام الساعة التي هو علمها ، وحفظنا ابنها بعلمنا وحكمتنا وقدرتنا وعظمتنا ممن كاده ، ورفعناه إلى محل قدسنا ، وختم به الأنبياء المذكورين هنا لأنه خاتم المجددين لهذا الدين المحمدي ، وهو دليل الساعة ، وكتابه أعظم كتاب بعد التوراة التي ابتدأ بصاحبها ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، حاشى القرآن الذي عجزت لبلاغته الإنس والجان .
ذكر شيء من دلائل كونه آية من الإنجيل : قال متى{[51686]} أحد المترجمين الأربعة للإنجيل وأغلب السياق له بعد أن ذكر مقتل يحيى بن زكريا عليهما السلام كما مضى في آل عمران : فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً ، وسمع الجمع فتبعوه ماشين من المدينة ، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ أعلاءهم ومرضاهم وقال مرقس{[51687]} : فلما خرج يسوع أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم لأنهم كانوا كخراف لا راعي{[51688]} لها فبدأ يعلمهم ، وبعد ساعات كثيرة جاء تلاميذه إليه ، وقال متى : ولما كان المساء أتى تلاميذه وقالوا : إن المكان قفر{[51689]} ، والساعة قد جازت ، أطلق{[51690]} الجمع يذهبوا إلى القرى المحيطة فيبتاعوا لهم طعاماً ، فقال لهم : أعطوهم أنتم ليأكلوا ، فقالوا لهم{[51691]} : ليس هاهنا إلا خمس خبزات وحوتان ، فقال لهم : قدموهم إلى ههنا ، وأمر بإجلاس الجميع على العشب{[51692]} ، وقال مرقس : الأخضر أحزاباً أحزاباً ، فجلسوا رفاقاً رفاقاً مائة مائة وخمسين خمسين ، وقال يوحنا{[51693]} : فقال لفيلبس : من أين نبتاع لهؤلاء خبزاً ؟ قاله ليجربه ، فقال فيلبس : ما يكفيهم خبز بمائتي دينار ، وقال إندراوس أخو شمعون الصفاء : إن هاهنا حدثاً معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ، فقال يسوع : مروا الناس بالجلوس ، وقال{[51694]} متى : وأخذ الخمس خبزات والحوتين ، ونظر إلى السماء وبارك وقسم وأعطى الخبز لتلاميذه ، وقال مرقس : وقسم الحوتين وناول{[51695]} التلاميذ الجميع فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا من فضلات الكسر اثني عشر سلاًّ مملوءة{[51696]} ، ومن السمك ، وكان عدد{[51697]} الآكلين خمسة آلاف رجل ، وقال متى{[51698]} : سوى النساء والصبيان ، وقال يوحنا : فقالوا : حقاً إن هذا هو النبي الجائي إلى العالم ، فعلم يسوع أنهم اجتمعوا ليحتفظوا به ويصيروه ملكاً ، فتحوّل إلى الجبل{[51699]} ، وقال متى : وللوقت أمر تلاميذه أن يصعدوا إلى السفينة ويسبقوه إلى العبر ليطلق الجموع ، وقال يوحنا : ليعبروا إلى كفر ناحوم وكان ظلاماً ، وقال متى : فأطلق الجمع وصعد إلى الجبل{[51700]} منفرداً يصلي ، وقال مرقس : وللوقت تقدم إلى تلاميذه بركوبهم السفينة وأن يسبقوه إلى العبر عند بيت صيدا ليطلق هو الجماعة{[51701]} ، فلما ودعهم وذهب إلى الجبل{[51702]} ليصلي ، قال متى : فلما كان المساء وكان وحده{[51703]} هناك والسفينة في وسط البحر ، فضربتها الأمواج لمعاندة الريح لها ، قال يوحنا : فمضوا نحو خمسة وعشرين غلوة{[51704]} أو ثلاثين ، وقال متى : وفي الهجعة الرابعة من الليل جاءهم ماشياً على البحر فاضطربوا وقالوا : {[51705]} إنه خيال{[51706]} ، ومن خوفهم صرخوا ، فكلمهم قائلاً : أنا هو ، لا تخافوا ، أجابه بطرس وقالوا : إن كنت أنت هو فمرني أن {[51707]} آتي إليك{[51708]} على الماء ، فقال له : تعال ! فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ، فرأى قوة الريح فخاف ، وكاد أن يغرق فصاح قائلاً : يا رب نجني ! فللوقت مد يسوع يده وأخذه وقال له{[51709]} : يا قليل الأمانة ! لم شككت ؟ فلما صعد السفينة سكنت{[51710]} الريح ، قال يوحنا : وللوقت صارت إلى الأرض التي أرادوها ، وفي الغد نظرت الجموع الذين كانوا معه في عبر البحر أن ليس هناك سوى سفينة واحدة ، وأن يسوع لم يركبها مع تلاميذه لكن تلاميذه مضوا وحدهم ، وكانت سفن أخر وافت من طبرية حتى انتهت إلى الموضع الذي أكلوا الخبز الذي بارك عليه ، فحين لم ير الجماعة يسوع هناك ولا تلاميذه ، ركبوا تلك السفن ، وأتوا إلى كفر ناحوم يطلبون يسوع ، فلما قصدوه في عبر البحر قالوا له : يا معلم ! متى صرت هاهنا ؟ أجاب يسوع وقال : الحق الحق أقول لكم ! إنكم لم تطلبوني لنظركم الآيات بل لأكلكم الخبز فشبعتم ، اعلموا لا للطعام الزائل بل للطعام الباقي في الحياة المؤبدة {[51711]} الذي يعطيكموه{[51712]} ابن البشر ، ثم قال : لست أعمل بمشيئتي ، لكن بمشيئة الذي أرسلني ، ثم قال : قد كتب في الأنبياء أنهم يكونون بأجمعهم معلمين ، الحق أقول لكم ! من يؤمن بي فله{[51713]} الحياة الدائمة ، قالوا : ما نصنع حتى نعمل أعمال الله ؟ قال : عمل الله هو أن تؤمنوا بمن{[51714]} أرسله ، قال متى : ولما عبروا جاؤوا إلى أرض جاناشر{[51715]} ، قال مرقس : فأرسوا وخرجوا من السفينة - انتهى{[51716]} .
فعرفه أهل ذلك المكان وأرسلوا إلى جميع تلك الكور فقدموا إليه كل المسقومين وطلبوا إليه{[51717]} أن يلمسوا طرف ثوبه فقط ، وكل من لمسه{[51718]} خلص .