الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (91)

قوله تعالى : " والتي أحصنت فرجها " أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال : " وجعلناها وابنها آية للعالمين " ولم يقل آيتين ؛ لأن معنى الكلام : وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين . وقال الزجاج : إن الآية فيهما واحدة ؛ لأنها ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير : وجعلنا آيه للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف . وعلى مذهب الفراء : وجعلناها آية للعالمين وابنها ، مثل قوله جل ثناؤه : " والله ورسوله أحق أن يرضوه{[11358]} " . وقيل : إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد . ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيدة . وقيل : إنها لم تلقم ثديا قط . و " أحصنت " يعني عفت فامتنعت من الفاحشة . وقيل : إن المراد بالفرج فرج القميص ؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة ، أي إنها طاهرة الأثواب . وفروج القميص أربعة : الكمان والأعلى والأسفل . قال السهيلي : فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا ، فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى ، وأوزن لفظا ، وألطف إشارة ، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل ، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس ، فأضف القدس إلى القدوس ، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس . " فنفخنا فيها من روحنا " يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها ، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها . وقد مضى هذا في " النساء " {[11359]} و " مريم " فلا معنى للإعادة . " آية " أي علامة وأعجوبة للخلق ، وعلما لنبوة عيسى ، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء .


[11358]:راجع جـ 8 ص 193 فما بعد.
[11359]:راجع جـ 6 ص 22 فما بعد.