التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (91)

1 التي أحصنت فرجها : كناية عن مريم .

{ والتي أحصنت فرجها 1 فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ( 91 ) } [ 91 ] .

وهذه حلقة تاسعة وأخيرة فيها إشارة على مريم وابنها الذي ولدته نتيجة لنفخ الله فيها من روحه ، وما كان في ذلك من المعجزة التي جعلها الله للعالمين ليشهدوا فيها مظهرا من مظاهر قدرة الله .

تعليق على قصة مريم وجملة

{ فنفخنا فيها من روحنا }

وقصة مريم وولادتها لعيسى قد ذكرت بشيء من الإسهاب في سورة مريم ، وقد علقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد . إلا أن نقول : إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تذكر هذه القصة في سورة مريم عقب ولادة يحيى ذكرت هنا عقب ذلك أيضا ؛ حيث أريد هنا كما أريد هناك تقرير كون كل من الولادتين معجزة ربانية ، فلا ينبغي أن يترتب على معجزة ولادة عيسى اتخاذه إلها أو ابنا لله بمعنى النبوة .

ونقطة أخرى في الآيات تأتي لأول مرة وهي جملة { فنفخنا فيها من روحنا } . وقد عبر عن ذلك في آية سورة آل عمران بجملة { يبشرك بكلمة منه } [ 45 ] وفي آية في سورة النساء بجملة { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } [ 171 ] وفي آية سورة التحريم بجملة { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } [ 12 ] وتعليقا على ذلك نقول : إن القرآن استعمل تعبير { ونفخت فيه من روحي } [ 72 ]في صدد خلق آدم في سورة ص ، وتعبير { ثم سواه ونفخ فيه من روحه } في صدد خلق الإنسان في سورة السجدة الآية [ 9 ] هذا أولا .

وثانيا : إن القرآن ذكر في سورة مريم أن روح الله تمثل لمريم بشرا ليهب لها غلاما ولم يذكر أسلوب الهبة . وروح الله في سورة مريم يعني على ما تلهمه العبارة بكل قوة بل وصراحة مَلَكَ الله وبين هذا وبين { فنفخنا فيها من روحنا } و { فنفخنا فيه من روحنا } [ التحريم : 12 ] فرق واضح .

وثالثا : إن القرآن لم يذكر في سورة آل عمران في سياق ذكر قصة ولادة عيسى نفخا ولا روحا مرسلا وإنما بشرى من الملائكة بكلمة الله كما ترى في هذه الآيات : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين 45 ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين 46 قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 47 } .

ورابعا : إن روح الآيات التي وردت فيها هذه التعبيرات تلهم قصد تقرير كون خلقة عيسى عناية ربانية ومعجزة ربانية ونفي أي جزئية إلهية عنه وقصد تقرير كون عيسى عبدا من عباد الله ورسوله ولا يصح أن يكون ولدا له أو مندمجا معه في الألوهية أو صورة من صورها وتنزيه الله عن هذه المعاني وتقرير وحدانيته وكمال صفاته كما جاء ذلك في آيات سورة النساء هذه : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا 171 لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } [ 182 ] .

فالواجب والحالة هذه الوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن دون تزيد مع ملاحظة ما تلهمه روح الآيات ، ومع اعتبار أن التنوع الذي يبدو في التعبيرات هو بقصد التقريب والتمثيل ، وملاحظة أن ما قصد تقريره متصل بالدعوة النبوية إلى الله وحده وتنزيهه عن الولد والشرك بأي معنى من المعاني وصورة من الصور ، وأن الله ليس كمثله شيء ، وأن كل صفاته وما يصح أن ينسب إليه أو يعبر به عنه بما في ذلك تعبير ( روحنا ) و ( روحه ) و ( ورح منه ) بمعنى حياته يجب أن يكون مندمجا في معنى وضابط ليس كمثله شيء وأن عدم المماثلة مما يمتنع أن يكون شيء ما منه منتقلا إلى غيره .

ولقد جاء وفد من نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فتناظر معه في أمر عيسى عليه السلام فقرر لهم ما جاء عنه في السور المكية مثل سورة مريم وسورة الأنبياء التي نحن في صددها فأصروا على عقيدتهم فقال لهم { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين 61 } كما أمرته آية سورة آل عمران [ 61 ] فأحجموا ثم قالوا له : ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته ؟ قال : بلى فقالوا : هذا حسبنا كأنهم رأوا فيه حجة عليه فأنزل الله فيما أنزل في صدد هذه المناظرة آية سورة آل عمران هذه : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } {[1363]} [ 7 ] كأنما أريد أن يقال فيها ردا على قولهم : إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط من ذلك حجة على أنه ابن الله أو جزء منه أو صورة عنه . فهذا تمحّل في التأويل ابتغاء تبرير الهوى والباطل وغير متسق مع المحكم من القرآن الذي يقرر بصراحة وقطعية أن الله واحد لا شريك له ولا ولد وأنه ليس ثالث ثلاثة وأن المسيح ليس إلها ولا ابنا لله ولا صورة عنه ولا جزءا منه ، وكل ما في الأمر أنه يقرر كون ولادته معجزة ربانية بالأسلوب الذي يمكن أن يعبر به عن ذلك بلسان البشر ؛ حيث ينطوي في هذا توكيد لما قلناه من أن العبارة القرآنية هي للتقريب والتمثيل .

هذا ، ويحسن أن نزيد على ما قلناه في سياق كل حلقة أن تعبير ( التنجية ) لأنبياء الله و ( استجابة الله ) لهم وعنايته بهم بسبب إخلاصهم وصبرهم وخشوعهم وعبادتهم وشكرهم قد تكرر في هذه الحلقات ، مما قد يجعل من مقاصد تشجيع النبي والمسلمين وتطمينهم والتنويه بهم ودعوتهم إلى التأسي بأنبياء الله .

والسورة بعد مما يقدر أنها نزلت في الثلث الأخير من العهد المكي الذي ماتت فيه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت من أعظم مشجعيه ومؤاسيه في مواقفه العصيبة ، ومات فيه كذلك أبو طالب عمه ومناصره ؛ حيث يحتمل أن يكون ضغط زعماء المشركين قد اشتد نتيجة لذلك غمّ النبي وخوف المؤمنين فجعله هذا كما روته الروايات يذهب إلى الطائف لعله يجد نصيرا ويتصل بزعماء القبائل في المواسم وبزعماء الأوس والخزرج أهل يثرب من أجل ذلك ، وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الحلقات بما فيه البشرى والتطمين بالنجاة والنصر {[1364]} .


[1363]:اقرأ تفسير سورة آل عمران في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والمنار.
[1364]:انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 52-38.