اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (91)

قوله تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } الآية{[29510]} . يجوز أن ينتصب قوله : «وَالَّتِي » نسقاً على ما قبلها ، وأن ينتصب بإضمار اذكر{[29511]} ، وأن يرتفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي : وفيما يتلى عليكم التي أحصنت{[29512]} . ويجوز أن يكون الخبر «فَنَفَخْنَا » وزيدت الفاء على رأي الأخفش نحو زيد فقائم{[29513]} . وفي كلام الزمخشري : نفخنا الروح في عيسى فيها{[29514]} . قال أبو حيان مؤاخذاً له : فاستعمل «نفخ » متعدياً والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع ، وغير متعد استعمله هو في قوله ؛ أي : نفخت في المزمار{[29515]} . انتهى ما آخذه به .

قال شهاب الدين : وقد سمع «نفخ » متعدياً ، ويدل على ذلك ما قرئ في الشاذ «فانفخها فَيَكُونُ طَائِراً »{[29516]} ، وقد حكاها هو قراءة{[29517]} ، فكيف ينكرها ؟ فعليك بالالتفات إلى ذلك{[29518]} . وقال ابن الخطيب : جعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل - عليه السلام {[29519]}- لأنه نفخ في جيب درعها{[29520]} ، فوصل النفخ إلى جوفها{[29521]} أي : أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها ، وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها وأضاف الروح إليه تشريفاً لعيسى ( - عليه السلام-{[29522]} ){[29523]} .

ومعنى «أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا » أي : إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }{[29524]} . وقيل : منعت جبريل جيب{[29525]} درعها{[29526]} قبل أن تعرفه .

والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ{[29527]} .

قوله : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } أما مريم فآياتها كثيرة :

إحداها : ظهور الحبل فيها لا من ذكر ، وذلك معجزة خارجة عن العادة .

وثانيها : أنَّ رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة لقول زكريا : { أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله }{[29528]} .

وثالثها : ورابعها : قال الحسن : أنها لم تلتقم ثدياً{[29529]} قط ، وتكلمت هي أيضاً في صباها كما تكلم عيسى{[29530]} . وأما آيات عيسى - عليه السلام{[29531]} - فقد تقدم بيانها{[29532]} فإن قيل : هلا قيل آيتين{[29533]} كما قال : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } ليطابق المفعول ؟

فالجواب : أنَّ كلاًّ منهما آية بالآخر فصارا آية واحدة ، لأنّ حالهما بمجموعهما آية واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير فحل{[29534]} . أو تقول : حذف من الأول لدلالة الثاني ، أو بالعكس أي : وجعلنا ابن مريم آية وأمه كذلك{[29535]} ، وهو نظير الحذف في قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }{[29536]} وقد تقدم . أو أنّ معنى الكلام : جعلنا شأنهما وأمرهما آية{[29537]} .


[29510]:الآية: سقط من ب.
[29511]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/403، مشكل إعراب القرآن 2/86، البيان 2/164، التبيان 2/925.
[29512]:انظر التبيان 2/925.
[29513]:وذلك أن الأخفش يجيز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا.
[29514]:الكشاف 3/20.
[29515]:البحر المحيط 6/336.
[29516]:من قوله تعالى: {فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} [آل عمران: 49]. في البحر المحيط: (وقرأ بعض القراء "فأنفخها") 2/466. و "طائرا" قراءة نافع. وغيره قرأ "طيرا" . انظر السبعة 206.
[29517]:قال أبو حيان: (وقرأ بعض القراء "فأنفخها" أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله: "فتنفخ فيها") البحر المحيط 2/466.
[29518]:الدر المصون: 5/57.
[29519]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29520]:درع المرأة: قميصها.
[29521]:الفخر الرازي 22/218.
[29522]:انظر البحر المحيط 6/336.
[29523]:ما بين القوسين في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29524]:من قوله تعالى: {قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا} [مريم: 20].
[29525]:في الأصل: ذيل.
[29526]:في الأصل: ذرعها. وهو تحريف.
[29527]:انظر الفخر الرازي 22/218.
[29528]:من قوله تعالى: {قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} [آل عمران: 37].
[29529]:في ب: ثدي.
[29530]:انظر الفخر الرازي 22/218.
[29531]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29532]:انظر الفخر الرازي 22/218.
[29533]:[الإسراء: 12].
[29534]:انظر الفخر الرازي 22/219. التبيان 2/926، البحر المحيط 6/336.
[29535]:انظر البيان 2/164-165، التبيان 2/926.
[29536]:[التوبة: 62]. والتقدير الأول أولى وهو الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه والتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه. وهو مذهب سيبويه. البيان 1/401، التبيان 2/648. وانظر اللباب 4/226.
[29537]:انظر معاني القرآن للفراء 2/210، معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/404.