قوله تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون } قرأ أبو جعفر بالتاء ، لتأنيث النجوى ، وقرأ الآخرون بالياء لأجل الحائل ، { من نجوى ثلاثة } أي من سرار ثلاثة ، يعني من المسارة ، أي : ما من شيء يناجي به الرجل صاحبيه ، { إلا هو رابعهم } بالعلم وقيل : معناه ما يكون من متناجين ثلاثة يسار بعضهم بعضاً إلا هو رابعهم بالعلم ، يعلم نجواهم ، { ولا خمسة إلا هو سادسهم } { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } قرأ يعقوب : { أكثر } بالرفع على محل الكلام قبل دخول من . { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم . } .
ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والأرض من دقيق وجليل . وأنه { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا } ، والمراد بهذه المعية معية العلم والإحاطة بما تناجوا به وأسروه فيما بينهم ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
ثم أقام - سبحانه - الأدلة على شمول علمه فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } .
والاستفهام فى قوله : { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير ، والرؤية بمعنى العلم والإدراك القلبى . . . والخطاب لكل من هو أهل له .
والنجوى : اسم مصدر بمعنى المسارة ، يقال : نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة ، أى : ساررته بكلام على انفراد ، وأصله : أن تخلو بمن تناجيه بسر معين فى نجوة من الأرض ، أي : فى مكان مرتفع منفصل عما حوله .
وقيل : أصله من النجاة ، لأن الإسرار بالشيء فيه معاونة على النجاة .
وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، كما فى الآية التى معنا .
قال الآلوسى : وقوله - تعالى - : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه - تعالى - ، و { يكون } من كان التامة . و { من } مزيدة و { نجوى } فاعل ، وإضافتها إلى ثلاثة من إضافة المصدر إلى فاعله . . . والإستثناء فى قوله { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } مفرغ من أعم الأحوال . . .
والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - علما لا يخالطه شك أو تردد ، أن الله - تعالى - يعلم علما تاما ، ما فى السموات وما فى الأرض من كائنات مختلفة الأجناس والأنواع . . وأنه - سبحانه - ما يقع من تناجى ثلاثة فيما بينهم إلا وهو تعالى - يعلمه ، كأنه حاضر معهم ، ومشاهد لهم ، كما يعلمه الرابع حين يكون معهم فى التناجى .
{ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } أى : ولا يكون التناجى بين خمسة إلا وهو - سبحانه - معهم ، يعلم ما يتناجون به كما يعلم ذلك سادسهم فيما لو كان التناجي بين ستة .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } بيان لشمول علمه لجميع الأحداث .
أي : ولا يقع التناجي بين ما هو أقل من ذلك العدد أو أكثر - كالإثنين والستة - إلا وهو - سبحانه - يعلم علما تاما ما يجرى بينهم فى أي مكان كانوا ، وعلى أية حال وجدوا .
{ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } أي : ثم يخبرهم - سبحانه - يوم القيامة بما عملوه فى الدنيا من أعمال كبيرة أو صغيرة ، ويجازيهم عليها بما يستحقونه من ثواب أو عقاب .
{ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء .
والمقصود بهذه الآية الكريمة ، بيان شمول علم الله - تعالى - لكل شىء ، وأنه - سبحانه - يحصى على الناس أعمالهم إحصاء الحاضر معهم ، المشاهد لهم ، الذي لا يعزب عنه شىء من حركاتهم أو سكناتهم ، ولذا افتتح - سبحانه - الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم - أيضا - .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : ذكر - سبحانه - الثلاثة والخمسة لوجوه : أحدها : أن هذه إشارة إلى كمال رحمته ، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا أخذ اثنان فى التناجي والمشاورة بقي الواحد ضائعا وحيداً ، فيضيق قلبه فيقول الله - تعالى - له : أنا جليسك وأنيسك .
وثانيها : أن الآية نزلت في قوم من المنافقين ، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين : أي كانوا في مرة ثلاثة وفي مرة أخرى خمسة - فنزلت الآية الكريمة بيانا للواقع . ويبدو لنا أن ذكر العدد إنما هو من باب التمثيل ، وأن المقصود الأصلي من الآية الكريمة ، بيان أن علم الله - تعالى - يشمل كل كبير وصغير ، وكثير وقليل ، ولذا قال - سبحانه - : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } .
قال القرطبى : قال الفراء : المعنى غير مقصود ، والعدد غير مقصودن لأنه - تعالى - إنما قصد - وهو أعلم - أنه مع كل عدد قل أو كثر ، يعلم ما يقولون سراً وجهراً ، ولا تخفى عليه خافية ، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد ، دون بعض . .
ثم قال تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم ، وسماعه كلامهم ، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا ، فقال :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ }أي : من سر ثلاثة{ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } أي : يطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به ، مع علم الله وسمعه لهم ، كما قال :{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ التوبة : 78 ] ، وقال{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ؛ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى{[28392]} ، ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم ، وبصره نافذ فيهم ، فهو ، سبحانه ، مطلع على خلقه ، لا يغيب عنه من أمورهم شيء .
ثم قال :{ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نّجْوَىَ ثَلاَثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قبلك فترى أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ من شيء ، لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره يقول جلّ ثناؤه : فكيف يخفى على من كانت هذه صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم ، ثم وصف جلّ ثناؤه قربه من عباده وسماعه نجواهم ، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم ، فيتحدثونه سرّا بينهم ، فقال : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ من خلقه إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ يسمع سرّهم ونجواهم ، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم وَلا خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ يقول : ولا يكون من نجوى خمسة إلا هو سادسهم كذلك وَلا أدْنَى مِنْ ذلكَ يقول : ولا أقلّ من ثلاثة وَلا أكْثَرَ من خمسة إلاّ هُوَ مَعَهُمْ إذا تناجوا أيْنَما كانُوا يقول : في أيّ موضع ومكان كانوا .
وعنى بقوله هُو رَابِعُهُمْ بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه ، وهو على عرشه ، كما :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : ثني نصر بن ميمون المضروب ، قال : حدثنا بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن الضحاك ، في قول ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ . . . إلى قوله هُوَ مَعَهُمْ قال : هو فوق العرش وعلمه معهم أيْنَما كانُوا ثُمّ يُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَة إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
وقوله : ثُمّ يُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ يقول تعالى ذكره : ثم يخبر هؤلاء المتناجين وغيرهم بما عملوا من عمل مما يحبه و يسخطه يوم القيامة إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : إن الله بنجواهم وأسرارهم ، وسرائر أعمالهم ، وغير ذلك من أمورهم وأمور عباده عليم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ فقرأت قرّاء الأمصار ذلك ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى بالياء ، خلا أبي جعفر القارىء ، فإنه قرأه : «ما تَكُونُ » بالتاء . والياء هي الصواب في ذلك ، لإجماع الحجة عليها ، ولصحتها في العربية .
{ ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض }كليا وجزئيا ، ما يكون من نجوى ثلاثة أي ما يقع من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يقدر مضاف أو يؤول نجوى بمتناجين ويجعل ثلاثة صفة لها واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإن السر أمر مرفوع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه ، { إلا هو رابعهم } إلا الله يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها والاستثناء من أعم الأحوال ، { ولا خمسة } ولا نجوى خمسة { إلا هو سادسهم } وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة فإن الأية نزلت في تناجي المنافقين ، أو لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أول الأوتار أو لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما ، وقرىء ثلاثة و خمسة بالنصب على الحال بإضمار يتناجون أو تأويل نجوى بمتناجين ولا أدنى من ذلك ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين ، ولا أكثر كالستة وما فوقها إلا هو معهم يعلم ما يجري بينهم ، وقرأ يعقوب ولا أكثر بالرفع عطفا على محل من نجوى أو محل لا أدنى بأن جعلت لا لنفي الجنس أينما كانوا فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة تفضيحا لهم وتقريرا لما يستحقونه من الجزاء إن الله بكل شيء عليم لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل على السواء .
وقوله تعالى : { من نجوى ثلاثة } ، يحتمل { من نجوى } أن يكون مصدراً مضافاً إلى { ثلاثة } ، كأنه قال : من سرار ثلاثة ، ويحتمل { نجوى } أن يكون المراد به جمعاً من الناس مسمى بالمصدر كما قال في آية أخرى : { وإذ هم نجوى }{[11004]} [ الإسراء : 47 ] أي أولو نجوى ، فيكون قوله تعالى : { ثلاثة } على هذا بدلاً { من نجوى } وفي هذا نظر .
وقوله تعالى : { إلا هو رابعهم } أي بعلمه وإحاطته ومقدرته .
وقرأ جمهور الناس : «ما يكون » وقرأ أبو جعفر القارئ وأبو حيوة : «ما تكون » بالتاء منقوطة من فوق ، وفي مصحف ابن مسعود : «ولا أربعة إلا الله خامسهم » ، وكذلك : «إلا الله رابعهم » ، و : «إلا الله سادسهم » .
وقرأ جمهور القراء : «ولا أكثر » عطفاً على اللفظ المخفوض ، وقرأ الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق : «ولا أكثرُ » بالرفع عطفاً على الموضع ، لأن التقدير ما يكون نجوى ، ومن جعل النجوى مصدراً محضاً قدر قبل { أدنى } فعلاً تقديره : ولا يكون أدنى ، وقرأ الخليل بن أحمد : «ولا أكبر » ، بالباء واحدة من تحت ، وباقي الآية بين .
استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالى : { أحصاه الله ونسوه } [ المجادلة : 6 ] إلى ذكر علم الله بأحوال المنافقين وأحلافهم اليهود . فكان المنافقون يناجي بعضهم بعضاً ليُرِيَ للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة ، وهم وإن كانوا يظهرون الإِسلام يحِبّون أن تكون لهم خيفة في قلوب المسلمين يتقون بها بأسهم إن اتهَموا بعضهم بالنفاق أو بدرت من أحدهم بادرة تنمّ بنفاقه ، فلا يُقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه . وكانوا إذا مرّ بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارّون لعلّ حدثاً حدث من مصيبة ، وكان المسلمون يومئذٍ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهّمون أن مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدوّ أو عن هزيمة للمسلمين في السرايَا التي يَخرجون فيها ، فنزلت هذه الآيات لإِشعار المنافقين بعلم الله بماذا يتناجون ، وأنه مُطلع رسوله على دخيلتهم ليكفُّوا عن الكيد للمسلمين .
فهذه الآية تمهيد لقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } الآية [ المجادلة : 8 ] .
و { ألم تر } من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يُرى وسَدَّ المصدر مسدَّ المفعول . والتقدير : ألم ترَ الله عالماً .
و { ما في السموات وما في الأرض } يعمّ المبصرات والمسموعات فهو أعم من قوله : { والله على كل شيء شهيد } [ المجادلة : 6 ] لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات .
وجملة { ما يكون من نجوى ثلاثة } إلى آخرها بدل البعض من الكل فإن معنى قوله : { إلا هو رابعهم } . وقوله : { إلا هو سادسهم } وقوله : { إلا هو معهم } ، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجيّ معهم .
و { ما } نافية . و { يكون } مضارع ( كان ) التامة ، و { من } زائدة في النفي لقصد العموم ، و { نجوى } في معنى فاعل { يكون } .
وقرأ الجمهور { يكون } بياء الغائب لأن تأنيث { نجوى } غير حقيقي ، فيجوز فيه جري فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف { من } الزائدة . وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعياً لصورة تأنيث لفظه .
والنجوى : اسم مصدر ناجاهُ ، إذا سارَّه . و { ثلاثة } مضاف إليه { نجوى } . أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم ، ولا خمسة إلا هو كسادس لهم ، ولا أدنى ولا أكثر إلاّ هو كواحد منهم . وضمائر الغيبة عائدة إلى { ثلاثة } وإلى { خمسة } وإلى { ذلك } و { أكثر } .
والمقصود من هذا الخبر الإِنذار والوعيد وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذي نزلت الآية بسببهم كانوا حلفاً بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة . وقال الفراء : المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود .
وفي « الكشاف » عن ابن عباس : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو ( بن عمير من ثقيف ) وصفوان بن أمية ( السلمي حليف بني أسد ) كانوا يتحدثون فقال أحدهم : أَترى أن الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً .
وقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله . اه . ولم أرَ هذا في غير « الكشاف » ولا مناسبة لهذا بالوعيد في قوله تعالى : { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } فإن أولئك الثلاثة كانوا مسلمين وعدّوا في الصحابة وكأنَّ هذا تخليط من الراوي بين سبب نزول آية { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم } في سورة [ فصلت : 22 ] . كما في صحيح « البخاري » وبين هذه الآية . وركبت أسماء ثلاثة آخرين كانوا بالمدينة لأن الآية مدنية فآية النجوى إنما هي في تناجي المنافقين أو فيهم وفي اليهود عن ابن عباس .
والاستثناء في { إلا هو رابعهم } { إلا هو سادسهم } { إلا هو معهم } مفرع من أكوان وأحوال دل عليها قوله تعالى : { ما يكون } والجمل التي بعد حرف الاستثناء في مواضع أحوال . والتقدير : ما يكون من نجوى ثلاثة في حال من علم غيرهم بهم واطلاعه عليهم إلا حالة الله مطلع عليهم .
وتكرير حرف النفي في المعطوفات على المنفي أسلوب عربي وخاصة حيث كان مع كل من المعاطيف استثناء .
وقرأ الجمهور { ولا أكثر } بنصب { أكثر } عطفاً على لفظ { نجوى } . وقرأه يعقوب بالرفع عطفاً على محل { نجوى } لأنه مجرور بحرف جر زائد .
و ( أينما ) مركب من ( أين ) التي هي ظرف مكان و ( ما ) الزائدة . وأضيف ( أين ) إلى جملة { كانوا } ، أي في أي مكان كانوا فيه ، ونظيره قوله : { وهو معكم أينما كنتم } في سورة [ الحديد : 4 ] .
( وثمّ } للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالِمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة .
وفي هذا وعيد لهم بأن نجواهم إثم عظيم فنهي عنه ويشمل هذا تحذير من يشاركهم .
وجملة { إن الله بكل شيء عليم } تذييل لجملة { ثم ينبئهم بما عملوا } فأغنت { إنّ } غناء فاء السببية كقول بشار :
وتأكيد الجملة ب { إن } للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك . وهذا التعريض بالوعيد يدلّ على أن النهي عن التناجي كان سابقاً على نزول هذه الآية والآيات بعدها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قبلك فترى "أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ "من شيء، لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره يقول جلّ ثناؤه: فكيف يخفى على من كانت هذه صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم.
ثم وصف جلّ ثناؤه قربه من عباده وسماعه نجواهم، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم، فيتحدثونه سرّا بينهم، فقال: "ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ" من خلقه "إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ" يسمع سرّهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم، "وَلا خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ" يقول: ولا يكون من نجوى خمسة إلا هو سادسهم كذلك، "وَلا أدْنَى مِنْ ذلكَ" يقول: ولا أقلّ من ثلاثة "وَلا أكْثَرَ" من خمسة "إلاّ هُوَ مَعَهُمْ" إذا تناجوا "أيْنَما كانُوا" يقول: في أيّ موضع ومكان كانوا. وعنى بقوله "هُو رَابِعُهُمْ" بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه. وقوله: "ثُمّ يُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ" يقول تعالى ذكره: ثم يخبر هؤلاء المتناجين وغيرهم بما عملوا من عمل مما يحبه و يسخطه يوم القيامة. " "إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ": إن الله بنجواهم وأسرارهم، وسرائر أعمالهم، وغير ذلك من أمورهم وأمور عباده عليم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فإن كان هذا الخطاب لرسول الله فيكون فيه وجهان:
أحدهما: دلالة رسالته، إذ أطلعه على ما أسروا في ما بينهم من المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتناجوا بينهم من الكيد والخداع؛ أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلم أنه بالله تعالى علم ذلك.
والثاني: بشارة له بالنصر والمعونة...
{ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} فيطلعك على ما هموا بك، وأسروا فيك، فينصرك ويدفع عنك كيدهم...
وجائز أن يكون الخطاب ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ولكن لكل في نفسه فيصير كأنه قال: ألم تر إلى عجائب ما أنشأ من السماوات والأرض قبل إنشاء أهلهما؟ فإذا رأيت عجائب ما أنشأ من السماوات والأرض وأهلهما، وعلمت ذلك، فاعلم أنه بما يكون من نجواهم في ما ذكر عالم، فيخرج على التنبيه والزجر عن الإسرار والنجوى...
...الآية نزلت في قوم من المنافقين، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا الإخبار عن إحاطة علمه وشمول قدرته مع أنه بديهي التصور -يحتاج عند من جره الهوى إلى الشرك المقتضي للنقص إلى دليل معه فقد كان العرب ينكرون أن يسع الناس كلهم إله واحد، قال تعالى دالاًّ على ذلك بدليل شهودي ليفيد الإنسان بما يراه من المحسوسات، قاصراً الخطاب على أعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره: {ألم تر} أي تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين {أن الله} أي الذي له صفات الكمال كلها {يعلم ما في السماوات} كلها. ولما كان الخطاب لأعلى الخلق، وكان المقام لإحاطة العلم، وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة للسامعين إلى وعورة هذا المقام وأنه بحيث لا يكاد يتصوره ولا يفهمه حق فهمه إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن ألحق به ممن صفا فهمه وسوى ذهنه وانخلع من الهوى والعوائق، جمع وأكد بإعادة الموصول، فإفراده صلى الله عليه وسلم بالخطاب بعد أن كان مع المظاهرين ثم المحادين إشارة إلى التعظيم وتأكيده تنبيه على صعوبة المقام بالتعميم ليرعى حق الرعي توفية بحق التعليم كما رعته الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها (سبحان من وسع سمعه الأصوات) يعني في سماعه مجادلة المرأة وهو في غاية الخفاء فقال تعالى: {وما في الأرض} أي كليات ذلك وجزئياته، لا يغيب عنه شيء منه، بدليل أن تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من يشاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك، القاصية والدانية، الحاضرة والغائبة، الماضية والآتية، فيكون كما أخبر.
ولما كان ذلك وإن كان معلوماً يتعذر إحاطة الإنسان بكل جزئي منه، دل عليه بما هو أقرب منه فقال: {ما تكون} بالفوقانية في قراءة أبي جعفر لتأنيث النجوى إشارة إلى العلم بها ولو ضعفت إلى أعظم حد، وقرأ الباقون بالتحتانية للحائل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وهي على كل حال من "كان " التامة، وعمم النفي بقوله: {من نجوى} أي تناجي متناجين، جعلوا نجوى مبالغة، والنجوى: السر والمسارون، اسم ومصدر- قاله في القاموس، وقال عبد الحق في الواعي: النجوى الكلام بين الإثنين كالسر والتشاور -انتهى. و أصله من النجوى- للمرتفع من الأرض، والنجو: الخلوص والقطع وكشط الجلد والحدث والكشف، لأن المسارر يرفع ما كان في ضميره إلى صاحبه ويخلصه بمساررته له ويقطعه من ضميره ويكشطه منه ويحدثه ويكشفه.
ولما كانت النجوى لا تكمل إلا بثالث يحفظ الأنس بإدامة الاجتماع لأن الإثنين ينفردان عند عروض حاجة لأحدهما ويكونان في التناجي والتشاور كالمتنازعين، والثالث وسط بينهما مع أنه سبحانه وتر يحب الوتر، والثلاثة أول أوتار العدد، كما كان حافظاً لها في أزل الأزل قال: {ثلاثة} أي في حال من الأحوال {إلا هو رابعهم} أي مصيرهم أربعة، فهو اسم فاعل، والمعنى بعلمه وقدرته كما يكون كل من المتناجين عالماً بنجوى البعض، فروح النجوى العلم بالسر.
ولما كان الثلاثة قد يريد أحدهم أن ينفرد بآخر منهم، فيصير الثالث وحده، فإذا كانوا أربعة دام الأنس بينهم ثم لا يكمل إلا بخامس يحفظ الاجتماع إذا عرضت لأحد الإثنين حاجة قال: {ولا خمسة} أي من نجواهم {إلا هو سادسهم} كذلك، فالحاصل أنه ما يكون من وتر إلا كان هو سبحانه شافع وتريته، وأما وتريته هو سبحانه فقد كانت ولا شيء معها أصلاً، وستكون ولا حي معها، فلا وتر في الوجود على الحقيقة غيره.
ولما علم بالتكرير أن ما ذكر على سبيل المثال لا لمعنى يخصه من جهة بالعلم، عم بقوله: {ولا أدنى} فبدأ بالقليل لأنه قبل الكثير وهو أخفى منه {من ذلك} أي الذي ذكر وهو الواحد والإثنان والأربعة الذي بعيد عن رتبته، وإن كان قد شرفه سبحانه بإطلاق معيته بعد أن لا نسبة له منها. ولما كان العلم بالكثير أعسر من أجل انتشاره قال: {ولا} أي يكون من نجوى {أكثر} أي من ذلك كالستة فما فوقها لا إلى نهاية -هذا التقدير على قراءة الجماعة بالجر بفتحة الراء ورفع يعقوب على محل من {نجوى} {إلا هو معهم} أي يعلم ما يجري منهم وبينهم، ويلزم من إحاطة علمه إحاطة قدرته كما تقدم في طه لتكمل شهادته.
ولما كان العموم في المكان يستلزم العموم في الزمان، وكان المكان أظهر في الحس قال: {أين ما} أي في أيّ مكان {كانوا} فإنه لا مسافة بينه وبين شيء من الأشياء لأنه الذي خلق المسافة، وعلمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة ولا بسبب من الأسباب غير وجوده على ما هو عليه من صفات الكمال... والحاصل أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء من العالم وإن بلغ في دقته إلى ما لا ينقسم، وهو شاهد لذلك كله حفظاً وعلماً وإحاطة وحضوراً، وآية ذلك في خلقه أن جملة الجسم يحي بالروح، فلا يبقى جزء منه إلا وهو محفوظ بالروح يحس بسببها وهو سبحانه لا يحجب علمه ولا شيئاً من صفاته حجاب، فقد صحت المعية وهو بحيث لا يحويه المكان ولا يحصره العد، يقبض المخلوق ويبسطه، لا يصعد المخلوق ولا صفته ولا فعله ولا معنى من معانيه إلى صفة من صفاته، إنما له من المكان المكانة، ومن العلم العلا، ومن الأسماء والصفات مقتضاها- أشار إلى ذلك ابن برجان وقال: ومن تدبر ما قرأه وتفهم ما تعلمه أدرك من التحقيق ما نحن بسبيل تبيانه ما قدر له، ألا ترى إلى الجن أين مكانهم وإن كانوا موصوفين به ثم الملائكة أرفع قدراً ومكانة، بل إن الروح من جميع الجملة التي تحمله، به حييت وبه تدبيرها وبه قيامها بإذن الله خالقه...
ولما كان الإنسان نساءًا ولا سيما إن تمادى به الزمان، قال عاطفاً على ما تقديره، فيضبط عليهم حركاتهم وسكناتهم من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، ويحفظها على طول الزمان كما كان حافظاً لها قبل خلقها ثم أزل الأزل {ثم ينبئهم} أي يخبر أصحابها إخباراً عظيماً {بما عملوا} دقيقة وجليلة {يوم القيامة} الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلى فيه أتم إظهار. ولما أخبر تعالى بهذا الأمر العظيم، علله بما هو دليل على الشهادة فقال مؤكداً لما لهم من الإنكار قولاً أو فعلاً بالاشتراك الذي يلزم منه النقص {إن الله} أي الذي له الكمال كله، ولما كان المقام للإبلاغ في إحاطة العلم، قدم الجار كما مضت الإشارة إليه غير مرة قال: {بكل شيء} مما ذكر وغيره {عليم} أي بالغ العلم فهو على كل شيء قدير، فهو على كل شيء شهيد.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة} الخ استئنافٌ مقررٌ لِمَا قَبْلَهُ من سعةِ علمِهِ تَعَالى وَمُبينٌ لكيفيتهِ {إِلاَّ هُوَ} أي الله عزَّ وجلَّ: {رَابِعُهُمْ} أيْ جاعلُهم أربعةً منْ حيثُ إنَّه تعالَى يشاركهُمْ فِي الإطلاعِ عَلَيها وهُوَ استثناءٌ مفرعٌ مِنْ أعمِّ الأحوالِ {وَلاَ خَمْسَةٍ} ولا نجوَى خمسةٍ {إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ}، وتخصيصُ العدَدينِ بالذكرِ إما لخصوصِ الواقعةِ فإنَّ الآيةَ نزلتْ في تناجي المنافقينَ وإمَّا لِبناءِ الكلامِ عَلى أغلبِ عاداتِ المتناجينَ وقدُ عممَ الحكمَ بعدَ ذلكَ فقيلَ: {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} أيْ ممَّا ذُكرَ كالواحدِ والاثنينِ {وَلاَ أَكْثَرَ} كالستةِ وما فوقَها {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يعلمُ مَا يَجْرِي بينَهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا.. وهي حقيقة في ذاتها...صورة تترك القلوب وجلة ترتعش مرة، وتأنس مرة، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل المأنوس. وحيثما اختلى ثلاثة تلفتوا ليشعروا بالله رابعهم. وحيثما اجتمع خمسة تلفتوا ليشعروا بالله سادسهم. وحيثما كان اثنان يتناجيان فالله هناك! وحيثما كانوا أكثر فالله هناك! إنها حالة لا يثبت لها قلب؛ ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ألم تر} من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يُرى وسَدَّ المصدر مسدَّ المفعول. والتقدير: ألم ترَ الله عالماً. و {ما في السموات وما في الأرض} يعمّ المبصرات والمسموعات فهو أعم من قوله: {والله على كل شيء شهيد} لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات. و (أينما) مركب من (أين) التي هي ظرف مكان و (ما) الزائدة. وأضيف (أين) إلى جملة {كانوا}، أي في أي مكان كانوا فيه، ونظيره قوله: {وهو معكم أينما كنتم} في سورة [الحديد: 4]. (وثمّ} للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالِمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة. وتأكيد الجملة ب {إن} للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك. وهذا التعريض بالوعيد يدلّ على أن النهي عن التناجي كان سابقاً على نزول هذه الآية والآيات بعدها.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
{ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم}. والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور خبيثة عن اليهود والمنافقين وما فيها من تحذير وتلقين.
عبارة الآيات واضحة: وقد تضمنت:
(1) تقريرا وتوكيدا بعلم الله تعالى لكل ما يعمله الناس بالسر والعلن مهما بالغوا بالتخفي والمساررة وكونهم تحت رقابته الدائمة الشاملة.
(2) وتنديدا بفريق من الناس نهوا عن الاجتماعات السرية، فلم ينتهوا وظلوا يعقدون هذه الاجتماعات ويتحدثون فيها بما فيه الإثم والعدوان ومعصية الرسول. ثم بلغ من تحديهم وسوء أدبهم أنهم كانوا إذا جاءوا إلى الرسول حيوه بغير تحية الله وقالوا في أنفسهم: هلا عذبنا الله على ما نقول ونفعل. وتحذيرا للمؤمنين المخلصين من مثل ذلك، وحثا على عمل ما هو الأمثل بهم وهو التناجي بما فيه البر والتقوى إذا اجتمعوا في مجالس خاصة وتقوى الله الذي سوف يحشرون إليه. وتنبيها تطمينيا لهم: فإذا تسارر فريق من الناس بما فيه إثم وتوكيد، فالشيطان هو الذي يوسوس لهم بذلك ليحزنهم، غير أنهم لن يضروهم بشيء إلا بإذن الله، وعليهم أن يتكلوا عليه فهو وحده الذي يتوكل عليه المؤمنون.
ومع خصوصية الآيات، فإنها تحتوي تلقينات وتأديبات اجتماعية عامة وعظات بليغة مستمرة المدى:
(1) بوجوب مراقبة الله والإيقان بأنه شاهد على كل شيء.
(2) وبوجوب الحذر نتيجة لذلك من الكيد والأذى والتآمر بالسوء سرا وجهرا.
(3) وبوجوب اجتناب ما من شأنه إثارة القلق في المجتمع بالاجتماعات والمجالس السرية المريبة.
(4) وبوجوب مراعاة عواطف الناس وشعورهم وبخاصة في أوقات أزماتهم.
(5) وبحظر التآمر في المجالس والاجتماعات السرية على ما فيه بغي وإثم ومعصية وبتقبيحه.
(6) وبوجوب تجنب الألفاظ المريبة في التحية والمعاشرة والآداب السلوكية مع الناس.
(7) وبحق الحاكم وولي الأمر في النهي عن كل ذلك وزجر الذين يفعلونه.
(8) وبتقرير كون الأمثل للمؤمنين ألا يتناجوا ولا يتحدثوا في مجالسهم إلا بما فيه خير وبر ونفع وتقوى، وأن ينزهوها عن كل ما فيه إثم وعدوان.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ}، فذلك هو الخط العقيدي الذي يصل إلى مستوى الوضوح، كما لو كان أمراً محسوساً مرئياً بالعين المجردة، لأن خالق الكون كله، والمهيمن على الأمر كله في تدبيره وتنظيمه، لا بد من أن يكون محيطاً بكل شيء، فلا تخفى عليه خافيةٌ من خفايا خلقه، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} لأنه الحاضر الذي لا يغيب عن أحدٍ، ولا يغيب عنه أحد، لأن الكون لديه بمنزلةٍ سواءٍ، في حضوره عنده، وفي حضوره فيه. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} في ما يوحي به ذلك من معنى المسؤولية الجزائية في عقاب الله، ليتحوّل الإحساس بالرقابة الإلهية الخفية الشاملة إلى إحساسٍ بالمسؤولية الدقيقة التي تلاحق الإنسان في سره، كما تلاحقه في علانيته، فليس لدى الله في ما يعلمه من شؤون خلقه سر وعلانية، بل الأمر في الوضوح لديه على حد سواء، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور...