مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (7)

ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالما بكل المعلومات فقال : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } .

قال ابن عباس : { ألم تر } أي ألم تعلم وأقول هذا حق لأن كونه تعالى عالما بالأشياء لا يرى ، ولكنه معلوم بواسطة الدلائل ، وإنما أطلق لفظ الرؤية على هذا العلم ، لأن الدليل على كونه عالما ، هو أن أفعاله محكمة متقنة منتسقة منتظمة ، وكل من كانت أفعاله كذلك فهو عالم .

أما المقدمة الأولى : فمحسوسة مشاهدة في عجائب السماوات والأرض ، وتركيبات النبات والحيوان .

أما المقدمة الثانية : فبديهية ، ولما كان الدليل الدال على كونه تعالى كذلك ظاهرا لا جرم بلغ هذا العلم والاستدلال إلى أعلى درجات الظهور والجلاء ، صار جاريا مجرى المحسوس المشاهد ، فلذلك أطلق لفظ الرؤية فقال : { ألم تر } وأما أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلأن علمه علم قديم ، فلو تعلق بالبعض دون البعض من أن جميع المعلومات مشتركة في صحة المعلومية لافتقر ذلك العلم في ذلك التخصيص إلى مخصص ، وهو على الله تعالى محال ، فلا جرم وجب كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، واعلم أنه سبحانه قال : { يعلم ما في السماوات وما في الأرض } ولم يقل : يعلم ما في الأرض وما في السماوات وفي رعاية هذا الترتيب سر عجيب .

ثم إنه تعالى خص ما يكون من العباد من النجوى فقال :

{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم } .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن جني : قرأ أبو حيوة { ما تكون من نجوى ثلاثة } بالتاء ثم قال والتذكير الذي عليه العامة هو الوجه ، لما هناك من الشياع وعموم الجنسية ، كقولك : ما جاءني من امرأة ، وما حضرني من جارية ، ولأنه وقع الفاصل بين الفاعل والمفعول ، وهو كلمة من ، ولأن النجوى تأنيثه ليس تأنيثا حقيقيا ، وأما التأنيث فلأن تقدير الآية : ما تكون نجوى ، كما يقال : ما قامت امرأة وما حضرت جارية .

المسألة الثانية : قوله : { ما يكون } من كان التامة ، أي ما يوجد ولا يحصل من نجوى ثلاثة .

المسألة الثالثة : النجوى التناجي وهو مصدر ، ومنه قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } وقال الزجاج : النجوى مشتق من النجوة ، وهي ما ارتفع ونجا ، فالكلام المذكور سرا لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة ، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ، ويجوز أيضا أن تجعل النجوى وصفا ، فيقال : قوم نجوى ، وقوله تعالى : { وإذ هم نجوى } والمعنى ، هم ذوو نجوى ، فحذف المضاف ، وكذلك كل مصدر وصف به .

المسألة الرابعة : جر ثلاثة في قوله : { من نجوى ثلاثة } يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون مجرورا بالإضافة ( والثاني ) أن يكون النجوى بمعنى المتناجين ، ويكون التقدير : ما يكون من متناجين ثلاثة فيكون صفة .

المسألة الخامسة : قرأ ابن أبي عبلة ثلاثة و خمسة بالنصب على الحال ، بإضمار يتناجون لأن نجوى يدل عليه .

المسألة السادسة : أنه تعالى ذكر الثلاثة والخمسة ، وأهمل أمر الأربعة في البين ، وذكروا فيه وجوها : ( أحدها ) أن هذا إشارة إلى كمال الرحمة ، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا أخذ إثنان في التناجي والمشاورة ، بقي الواحد ضائعا وحيدا ، فيضيق قلبه فيقول الله تعالى : أنا جليسك وأنيسك ، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيدا فريدا ، أما إذا كانوا أربعة لم يبق واحد منهم فريدا ، فهذا إشارة إلى أن كل من انقطع عن الخلق ما يتركه الله تعالى ضائعا ( وثانيها ) أن العدد الفرد أشرف من الزوج ، لأن الله وتر يحب الوتر ، فخص الأعداد الفرد بالذكر تنبيها على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور ( وثالثها ) أن أقل مالا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة ، حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل تلك المشورة ويتم ذلك الغرض ، وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشاورة ، فلا بد فيهم من واحد يكون حكما مقبول القول ، فلهذا السبب لا بد وأن تكون أرباب المشاورة عددهم فردا ، فذكر سبحانه الفردين الأولين واكتفى بذكرهما تنبيها على الباقي ( ورابعها ) أن الآية نزلت في قوم من المنافقين ، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو ، وصفوان بن أمية ، كانوا يوما يتحدثون ، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما تقول ؟ وقال الثاني : يعلم البعض دون البعض ، وقال الثالث : إن كان يعلم البعض فيعلم الكل ( وخامسها ) أن في مصحف عبد الله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا أخذوا في التناجي .

المسألة السابعة : قرئ : { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر } بالنصب على أن لا لنفي الجنس ، ويجوز أن يكون { ولا أكثر } بالرفع معطوفا على محل لا مع أدنى ، كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوة ( والثالث ) يجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء ، كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله ( والرابع ) أن يكون ارتفاعهما عطفا على محل { من نجوى } كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم ، ( والخامس ) يجوز أن يكونا مجرورين عطفا على { نجوى } كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم .

المسألة الثامنة : قرئ : { ولا أكبر } بالباء المنقطعة من تحت .

المسألة التاسعة : المراد من كونه تعالى رابعا لهم ، والمراد من كونه تعالى معهم كونه تعالى عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم ، وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم ، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة .

المسألة العاشرة : قرأ بعضهم : { ثم ينبئهم } بسكون النون ، وأنبأ ونبأ واحد في المعنى ، وقوله : { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } أي يحاسب على ذلك ويجازي على قدر الاستحقاق ، ثم قال : { أن الله بكل شيء عليم } وهو تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات .