السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (7)

ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال جل ذكره : { ألم تر } أي : تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين { أنّ الله } أي : الذي له صفات الكمال كلها { يعلم ما في السماوات } كلها { وما في الأرض } كذلك كليات ذلك وجزئياته ، لا يغيب عنه شيء منه بدليل أنّ تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون ، وهو يخبر من شاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك القاصية والدانية والماضية والآتية فيكون كما أخبر ، وقوله تعالى : { ما يكون من نجوى } يكون فيه من كان التامة ، ومن نجوى فاعلها ، ومن مزيدة فيه أي : ما يقع من تناجي { ثلاثة } ، ويجوز أن يقدره مضاف أي : أهل نجوى فيكون ثلاثة صفة لأهل وأن يؤوّل نجوى بمتناجين جعلوا نجوى مبالغة فيكون ثلاثة صفة لنجوى ، واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإنّ السر يرتفع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه وقوله تعالى : { إلا هو رابعهم } استثناء من أعمّ الأحوال .

أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء في حال من الأحوال إلا وهو يعلم نجواهم ، كأنه حاضر معهم وشاهدهم ، كما تكون نجواهم عند الرابع الذي يكون معهم { ولا خمسة } أي : من نجواهم { إلا هو سادسهم } أي : يعلم نجواهم كما مرّ .

فإن قيل : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة ؟ أجيب : بوجهين أحدهما : أن قوماً من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون { ولا أدنى من ذلك } أي : من عددهم { ولا أكثر } أي : من ذلك { إلا هو معهم } يسمع ما يقولون { أينما } أي : في أي مكان { كانوا } فإنه لا مسافة بينه وبين شيء فقد روي عن ابن عباس : أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدّثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً وقال الثالث : إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله وصدق لأنّ من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها ، لأنّ كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم .

والوجه الثاني : أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندوبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهى والأحلام ورهط من أهل الرأي والتجارب ، وأوّل عددهم اثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، وحكم به الإستصواب .

ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة وقال { ولا أدنى من ذلك } فدلّ على الإثنين والأربعة ، وقال : { ولا أكثر } فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته الكبرى أخرجها الحارث ابن أبي أسامة رقي المنبر وقال : «يا أيها الناس ادنوا واسمعوا لمن خلفكم ثلاث مرات » فدنا الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض والتفتوا فلم يروا أحداً فقال : رجل منهم بعد الثالثة : لمن نسمع يا رسول الله الملائكة فقال : «لا إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم » وعلى ذلك فليسوا في مكان الإيمان هنا والشمائل بل في المكانة من ذلك فالله جلّ جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء { ثم ينبئهم } أي : يخبر أصحاب النجوى أخباراً عظيماً { بما عملوا } دقيقه وجليله { يوم القيامة } الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلا فيه أتم إظهار ، { إنّ الله } الذي له الكمال كله { بكل شيء } أي : مما ذكر وغيره { عليم } أي : بالغ العلم فهو على كل شيء شهيد وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات .