اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (7)

ثم إنه - تعالى - أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات ، فقال جل ذكره : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } فلا يخفى عليه سرّ ولا علانية .

قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى } ، «يكون » تامة ، و«من نجوى » فاعلها ، و«من » مزيدة فيه ، و«نجوى » في الأصل مصدر ، فيجوز أن يكون باقياً على أصله ، ويكون مضافاً لفاعله ، أي : ما يوجد من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يكون على حذف ، أي : من ذي نَجْوَى ، ويجوز أن يكون أطلق على الأشخاص المتناجين مبالغة .

فعلى هذين الوجهين ينخفض «ثلاثة » على أحد وجهين{[55657]} : إما البدل من «ذوي » المحذوفة ، وإما الوصف لها على التقدير الثاني ، وإما البدل ، أو الصفة ل «نجوى » على التقدير الثالث .

وقرأ ابن{[55658]} أبي عبلة : «ثلاثة » ، و«خمسة » نصباً على الحال ، وفي صاحبها وجهان{[55659]} :

أحدهما : أنه محذوف مع رافعه تقديره : يتناجون ثلاثة ، وحذف لدلالة «نجوى » .

والثاني : أنه الضمير المستكن في «نجوى » إذا جعلناها بمعنى المتناجين [ قاله الزمخشري{[55660]} ، رحمه الله .

قال مكي{[55661]} : «ويجوز في الكلام رفع «ثلاثة » على البدل من موضع «نجوى » ؛ لأن موضعها رفع و «من » زائدة ، ولو نصبت «ثلاثة » على الحال من الضمير المرفوع إذا جعلت «نجوى » بمعنى المتناجين جاز في الكلام » ]{[55662]} .

قال شهاب الدين{[55663]} : «ولا يقرأ به فيما علمت ، وهو جائز في غير القرآن كما قال ، وأما النصب فقد قرئ به ، وكأنه لم يطلع عليه » .

قوله : { إلا هو رابعهم } ، { إلا هو خامسهم } ، { إلا هو معهم } كل هذه الجمل بعد «إلا » في موضع نصب على الحال أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرغ من الأحوال العامة .

وقرأ أبو جعفر{[55664]} : «ما تكون » بتاء التأنيث لتأنيث النجوى .

قال أبو الفضل : إلا أنَّ الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في قراءة العامة ؛ لأنه مسند إلى «من نجوى » وهو اسم جنس مذكر .

قال ابن جني{[55665]} : التذكير الذي عليه العامة هو الوجه ؛ لوقوع الفاصل بين الفعل والفاعل ، وهو كلمة «من » ، ولأن تأنيث النجوى غير حقيقي .

قوله : «ولا أكْثرَ » .

العامة على الجر عطفاً على لفظ «نجوى » .

وقرأ الحسن{[55666]} ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ويعقوب : «ولا أكثر » بالرفع ، وفيه وجهان{[55667]} :

أحدهما : أنه معطوف على موضع «نجوى » لأنه مرفوع ، و«من » مزيدة ، فإن كان مصدراً كان على حذف مضاف كما تقدم ، أي : من ذوي نجوى ، وإن كان بمعنى متناجين ، فلا حاجة إلى ذلك .

الثاني : «أدنى » مبتدأ ، و{ إلاَّ هو معهم } خبره ، فيكون «ولا أكثر » عطفاً على المبتدأ ، وحينئذ يكون «ولا أدنى » من باب عطف الجمل لا المفردات .

وقرأ الحسن ويعقوب{[55668]} أيضاً ومجاهد والخليل : «ولا أكبر » بالباء الموحدة والرفع على ما تقدم .

وزيد بن علي{[55669]} : «ينبيهم » - بسكون النون - من أنبأ إلاَّ أنه حذف الهمزة وكسر الهاء .

وقرئ كذلك إلا أنه بإثبات{[55670]} الهمزة وضم الهاء ، والعامة بالتشديد من «نبأ » .

فصل في النجوى

«النَّجْوَى » : التناجي ، وهو السرار وهو مصدر يوصف به ، يقال : قوم نجوى ، وذوو نجوى .

قال تعالى : { وَإِذْ هُمْ نجوى } ، قال الزجاج{[55671]} : «النجوى » مشتقة من النجوة وهي ما ارتفع وتنجى ، فالكلام المذكور سرًّا ، لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة ، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ، والسرار ما كان بين اثنين . قوله : { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } أي : يعلم ، ويسمع نجواهم بدليل افتتاح الآية بالعلم{[55672]} . فإن قلت : ما الحكمة في ذكره - سبحانه وتعالى - الثلاثة والخمسة ، وأهمل الأربعة ؟ ، فالجواب من وجوه{[55673]} :

الأول : أن ذلك إشارة إلى كمال الرحمة ؛ لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا تناجى اثنان منهم بقي الثالث ضائعاً وحيداً ، فيضيق عليه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذَا كُنْتُمْ ثلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَان دُونَ الثَّالثِ إلاَّ بإذْنِهِ فإنَّ ذلِكَ يُحْزنهُ »{[55674]} ، فكأنه - تعالى - يقول : أنا جليسك وأنيسك ، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً .

الثاني : أن العدد الفرد أشرف من الزوج ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - وتر يحب الوتر ، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور .

الثالث : أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الإثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل المشورة ، ويتم ذلك الغرض ، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فرداً ، فذكر الله - تعالى - الفردين الأولين ، واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي .

الرابع : أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي ، وكانوا على هذين العددين .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ربيعة ، وحبيب بن أبي عمرو ، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون ، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول ؟ وقال الثالث : يعلم البعض .

الخامس : أنه في مصحف عبد الله بن مسعود : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلاَّ الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي ) .

قوله : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } أي : يحاسب على ذلك ، ويجازي عليه . { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا تحذير من المعاصي ، وترغيب في الطاعات .


[55657]:ينظر: الدر المصون 6/287.
[55658]:ينظر: الكشاف 4/489. والبحر المحيط 8/233، والدر المصون 6/287، والقرطبي 17/188، والرازي 29/230.
[55659]:ينظر: الدر المصون 6/287.
[55660]:الكشاف 4/490.
[55661]:ينظر: المشكل 2/723.
[55662]:سقط من ب.
[55663]:الدر المصون 6/287.
[55664]:وهي قراءة أبي حيوة كما في المحرر الوجيز 5/276، وقراءة الأعرج وعيسى كما في القرطبي 17/188، وينظر: الرازي 29/230، والدر المصون 6/288.
[55665]:ينظر: المحتسب 2/315.
[55666]:ينظر: المحرر الوجيز 5/276، والبحر المحيط 8/233، والدر المصون 6/288، والقرطبي 17/188، وزاد: "سلام، وأبو العالية، ونصر، وعيسى".
[55667]:ينظر: الدر المصون 6/288.
[55668]:ينظر: المحرر الوجيز 5/276، والبحر المحيط 8/234، والدر المصون 6/288، والقرطبي 17/188، وقال: وقرأ الزهري وعكرمة "أكبر" بالباء.
[55669]:ينظر: البحر المحيط 8/234، والدر المصون 6/288.
[55670]:السابق.
[55671]:ينظر: معاني القرآن 5/137، والفخر الرازي 29/230.
[55672]:القرطبي 17/188.
[55673]:ينظر: الفخر الرازي 29/230، 231.
[55674]:أخرجه البخاري 11/82، وكتاب الاستئذان، باب: إذا كانوا أكثر من ثلاثة (6290)، ومسلم (37 - 2184).