قوله تعالى : { وجعلنا لكم فيها معايش } ، جمع معيشة ، قيل : أراد بها المطاعم والمشارب والملابس وهي ما يعيش به الآدمي في الدنيا ، { ومن لستم له برازقين } ، أي : جعلنا فيها من لستم له برازقين من الدواب والأنعام ، أي : جعلناها لكم وكفيناكم رزقها و{ من } في الآية بمعنى ما كقوله تعالى : { فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين } [ النور-45 ] . وقيل : { من } في موضعها ، لأنه أراد المماليك مع الدواب . وقيل : { من } في محل الخفض عطفا على الكاف والميم في { لكم } .
وأننا - كذلك - { جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ . . . } والمعايش : جمع معيشة ، وهى في الأصل مصدر عاش يعيش عَيْشا وعَيْشةً ومعاشًا ، ومعيشة ، إذا صار ذا حياة . ثم استعمل هذا اللفظ فيما يعاش به ، أو فيما يتوصل به إلى العيش .
أي : وجعلنا لكم في الأرض ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها ، مما تقتضيه ضرورات الحياة التي تحيونها .
وجملة { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } معطوفة على { معايش } .
والمراد بمن لستم له برازقين : ما يشمل الأطفال والعجزة والأنعام وغير ذلك من مخلوقات الله التي تحتاج إلى العون والمساعدة .
أي : وجعلنا لكم في الأرض ما تعيشون به أو ما تتوصلون به إلى ذلك من المكاسب والتجارات ، وجعلنا لكم فيها - أيضًا - من لستم له برازقين من العيال والخدم والدواب . . . وإنما الرازق لهم هو الله - تعالى - رب العالمين ، إذ ما من دابة في الأرض إلا على الله وحده رزقها .
وما يزعمه الجاهلون من أنهم هم الرازقون لغيرهم ، هو لون من الغرور والافتراء ، لأن الرازق للجميع هو الله رب العالمين .
وعبر بمن في قوله { ومن لستم } تغليباً للعقلاء على غيرهم .
قال الإِمام ابن كثير : " والمقصود - من هذه الجملة - أنه - تعالى - يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب ، وصنوف المعاشات وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها ، والعبيد والإماء التي يستخدمونها ، ورزقهم على خالقهم لا عليهم ، فلهم هم المنفعة ، والرزق على الله - تعالى - " .
وقوله : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } يذكر ، تعالى ، أنه صرفهم في الأرض في صنوف [ من ]{[16110]} الأسباب والمعايش ، وهي جمع معيشة .
وقوله : { وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } قال مجاهد : وهي الدواب والأنعام .
وقال ابن جرير : هم العبيد والإماء والدواب والأنعام .
والقصد أنه ، تعالى ، يمتن{[16111]} عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش ، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها ، والعبيد والإماء التي يستخدمونها ، ورزْقهم على خالقهم لا عليهم فلهم هم المنفعة ، والرزق على الله تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَجَعَلْنَا لَكُمْ أيها الناس في الأرض مَعَايِشَ ، وهي جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ .
اختلف أهل التأويل في المعني في قوله : وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ فقال : بعضهم : عُني به الدوّاب والأنعام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا ورقاء وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله جمعيا ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ الدوابّ والأنعام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : عُني بذلك الوحشُ خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور في هذه الاَية وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ قال : الوحش .
فتأويل «مَنْ » في : وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ على هذا التأويل بمعنى «ما » ، وذلك قليل في كلام العرب .
وأولى ذلك بالصواب ، وأحسن أن يقال : عُني بقوله : وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ من العبيد والإماء والدوابّ والأنعام . فمعنى ذلك : وجعلنا لكم فيها معايشَ والعبيدَ والإماء والدوابّ والأنعام . وإذا كان ذلك كذلك ، حسن أن توضع حينئذ مكان العبيد والإماء والدوابّ «من » ، وذلك أن العرب تفعل ذلك إذا أرادت الخبر عن البهائم معها بنو آدم . وهذا التأويل على ما قلناه وصرفنا إليه معنى الكلام إذا كانت «من » في موضع نصب عطفا به على «معايش » بمعنى : جعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين . وقيل : إنّ «من » في موضع خفض عطفا به على الكاف والميم في قوله : وَجَعلْنَا لَكُمْ بمعنى : وجعلنا لكم فيها معايش وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ . وأحسب أن منصورا في قوله : هو الوحش ، قصد هذا المعنى وإياه أراد وذلك وإن كان له وجه في كلام العرب فبعيد قليلا ، لأنها لا تكاد تظاهر على معنى في حال الخفض ، وربما جاء في شعر بعضهم في حال الضرورة ، كما قال بعضهم :
هَلاّ سألْتَ بذِي الجمَاجِمِ عنهُمُ *** وأبى نُعَيمٍ ذي اللّوَاءِ المُخْرَقِ
فردّ أبا نعيم على " الهاء " والميم في «عنهم » . وقد بيّنت قبح ذلك في كلامهم .
{ وجعلنا لكم فيها معايش } تعيشون لها من المطاعم والملابس . وقرئ " معايش " بالهمزة على التشبيه بشمائل : { ومن لستم له برازقين } عطف على { معايش } أو على محل { لكم } ، ويريد به العيال والخدم والمماليك وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا ، فإن الله يرزقهم وإياهم ، وفذلكة الآية الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقه وطبيعة ، مع جواز أن لا تكون كذلك على كمال قدرته وتناهي حكمته ، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بم أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه يعبدوه .
و { معايش } جمع معيشة . وقرأها الأعمش بالهمز وكذلك روى خارجة عن نافع . والوجه ترك الهمز لأن أصل ياء معيشة الحركة . فيردها إلى الأصل الجمع ، بخلاف : مدينة ومدائن{[7144]} .
وقوله : { ومن لستم له برازقين } يحتمل أن تكون { من } في موضع نصب وذلك على ثلاثة أوجه .
أحدها : أن يكون عطفاً على { معايش } ، كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش ، وهي ما يؤكل ويلبس ، ثم عدد النعم في الحيوان والعبيد والصناع وغير ذلك مما ينتفع به الناس وليس عليهم رزقهم .
والوجه الثاني : أن تكون { من } معطوفة على موضع الضمير في { لكم } وذلك أن التقدير : وأنعشناكم وأنعشنا{[7145]} أمماً غيركم من الحيوان . فكأن الآية - على هذا - فيها اعتبار وعرض آية .
والوجه الثالث : أن تكون { من } منصوبة بفعل مضمر يقتضيه الظاهر ، تقديره : وأنعشنا من لستم له برازقين .
ويحتمل أن تكون { من } في موضع خفض عطفاً على الضمير في { لكم } وهذا قلق في النحو لأن العطف على الضمير المجرور ، وفيه قبح ، فكأنه قال : ولمن لستم له برازقين ، وأنتم تنتفعون به .