مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ} (20)

{ وجعلنا لكم فيها معايش } لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين : الأول : بحسب الأكل والانتفاع بعينه . والثاني : أن ينتفع بالتجارة فيه ، والقائلون بهذا القول قالوا : الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب إطلاق اسم السبب على المسبب قالوا : ويتأكد ذلك أيضا بقوله تعالى { وكل شيء عنده بمقدار } وقوله : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم }

والوجه الثاني : في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم ، فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص ومن الماء والهواء كذلك ، ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص ، ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص ، أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان ، فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع .

والوجه الثالث : في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون : فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة ، وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسبا حسنا بعيدا عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل ، وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب ، فقوله : { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة ومطابقة المصلحة .

والوجه الرابع : في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان : المعادن والنبات : أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزجاجات وغيرها . وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن ، لأن الحبوب توزن ، وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم . وقوله تعالى : { وجعلنا لكم فيها معايش } فيه مسألتان :

المسألة الأولى : ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله : { ومن لستم له برازقين } فيه قولان :

القول الأول : أنه معطوف على محل لكم ، والتقدير : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين .

والقول الثاني : أنه عطف على قوله : { معايش } والتقدير : وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة : الاحتمال الأول : أن كلمة «من » مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله : { ومن لستم له برازقين } العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد ، وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد ، وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق برزق الخادم والمخدوم ، والمملوك والمالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة ، وأعطى القوة المغذية والهاضمة ، وإلا لم يحصل لأحد رزق . والاحتمال الثاني : وهو قول الكلبي قال : المراد بقوله : { ومن لستم له برازقين } الوحش والطير .

فإن قيل : كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل ؟ قلنا : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء ، والدليل عليه قوله تعالى : { والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع } والثاني : أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقا على الله حيث قال : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها }

فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالفها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة ، فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل ، ألا ترى أنه قال : { نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } فذكرها بصيغة جمع العقلاء ، وقال في الأصنام : { فإنهم عدو لي } وقال : { كل في فلك يسبحون } فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعا رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال : فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها .

والاحتمال الثالث : أنا نحمل قوله : { ومن لستم له برازقين } على الإماء والعبيد ، وعلى الوحش والطير ، وإنما أطلق عليها صيغة ( من ) تغليبا لجانب العقلاء على غيرهم .

المسألة الثانية : قوله : { ومن لستم له برازقين } لا يجوز أن يكون مجرورا عطفا على الضمير المجرور في لكم ، لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، لا يقال أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } .

واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ : { تساءلون به والأرحام } بالخفض وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك . والله أعلم .