قوله تعالى : { ترجي } أي : تؤخر ، { من تشاء منهن وتؤوي } أي : تضم ، { إليك من تشاء } اختلف المفسرون في معنى الآية : فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجبة عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن . قال أبو رزين ، وابن زيد : نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ، وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبداً ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، ويرجي من يشاء ، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة ، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط . واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم ؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحداً ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعله الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة . وقيل : أخرج بعضهن . روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فأرجى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن وآوى إليه بعضهن ، وكان ممن آوى إليه : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء ، وأرجى منهن خمساً : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء . وقال مجاهد : ترجي من تشاء منهن يعني : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد . وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء . وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك . وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سلام ، أنبأنا ابن فضيل ، أنبأنا هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟ فلما نزلت : { ترجي من تشاء منهن } قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . قوله عز وجل : { ومن ابتغيت ممن عزلت } أي : طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم ، { فلا جناح عليك } لا إثم عليك ، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال ، { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن } أي : التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل ، { ويرضين بما آتيتهن } أعطيتهن ، { كلهن } من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء ، { والله يعلم ما في قلوبكم } من أمر النساء والميل إلى بعضهن ، { وكان الله عليماً حليماً } .
{ 51 } { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به ، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته ، على وجه الوجوب ، وأنه إن فعل ذلك ، فهو تبرع منه ، ومع ذلك ، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء ، ويقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " .
فقال هنا : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } [ أي : تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك ، ولا تبيت عندها ]{[717]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : تضمها وتبيت عندها .
{ و } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ } أي : أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [ وقال كثير من المفسرين : إن هذا خاص بالواهبات ، له أن يرجي من يشاء ، ويؤوي من يشاء ، أي : إن شاء قبل من وهبت نفسها له ، وإن شاء لم يقبلها ، واللّه أعلم ]{[718]}
ثم بين الحكمة في ذلك فقال : { ذَلِكَ } أي : التوسعة عليك ، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك ، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجبًا ، ولم تفرط في حق لازم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة ، وعند المزاحمة في الحقوق ، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه ، لتطمئن قلوب زوجاتك .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : واسع العلم ، كثير الحلم . ومن علمه ، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم ، وأكثر لأجوركم . ومن حلمه ، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم ، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر .
وقوله - عز وجل - { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } شروع فى بيان جانب آخر من التوسعة التى وسعها - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى معاشرته لنسائه ، بعد بيان ما أحله له من النساء .
وقوله : { تُرْجِي } من الإِرجاء بمعنى التأخير والتنحية ، وقرئ مهموزا وغير مهموز . تقول : أرجيت الأمر وأرجأته ، إذا أخرته ، ونحيته جانبا حتى يحين موعده المناسب .
وقوله : { وتؤوي } من الإِيواء بمعنى الضمر والتقريب ، ومنه قوله - تعالى - : { وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ . . } أى : ضمة إليه وقربه منه .
والضمير فى قوله { مِنْهُنَّ } يعود إلى زوجاته صلى الله عليه وسلم اللائى كن فى عصمته .
قال القرطبى ما ملخصه : واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية ، وأصح ما قيل فيها : التوسعة على النبى صلى الله عليه وسلم فى ترك القَسْم ، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته .
وهذا القول هو الذى يناسب ما مضى ، وهو الذى ثبت معناه فى الصحيح ، عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : كنت أغار على اللائى وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أو تهب المرأة نفسها لرجل ؟ فلما أنزل الله - تعالى - : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ . . . } .
قالت : قلت : والله ما رأى ربك إلا يسارع فى هواك .
قال ابن العربى : هذا الذى ثبت فى الصحيح هو الذى ينبغى أن يعول عليه . والمعنى المراد : هو أن النبى صلى الله عليه وسلم كان مخيرا فى أزواجه ، إن شاء أن يقسم قسم ، وإن شاء أن يترك القسم ترك . لكنه كان يقسم من جهة نفسه ، تطييبا لنفوس أزواجه .
وقيل كان القسم واجبا عليه ثم نسخ الوجوب بهذه الآية .
وقيل : الآية فى الطلاق . أى : تطلق من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء .
وقيل : المراد بالآية : الواهبات أنفسهن له صلى الله عليه وسلم .
ثم قال القرطبى : وعلى كل معنى ، فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِباحة ، وما اخترناه أصح والله أعلم .
أى : لقد وسعنا عليك - أيها الرسول الكريم - فى معاشرة نسائك ، فأبحنا لك أن تؤخر المبيت عند من شئت منهن ، وأن تضم إليك من شئت منهن ، بدون التقيد بوجوب القسم بينهن ، كما هو الشأن بالنسبة لأتباعك حيث أوجبنا عليهم العدل بين الأزواج فى البيوتة وما يشبهها .
ومع هذا التكريم من الله - تعالى - لنبيه ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بينهن إلى أن لحق بربه ؟ عدا السيدة سودة ، فإنها قد وهبت ليلتها لعائشة . .
أخرج البخارى عن عائشة رضى الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم كان يستأذن فى يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية ترجى من تشاء منهن . .
فقيل : لها ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إليَّ فإنى لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا .
وقوله - تعالى - : { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } . زيادة فى التوسعة عليه صلى الله عليه وسلم وفى ترك الأمر لإرادته واختياره .
أى : أبحنا لك - أيها الرسول الكريم - أن تقسم بين نسائك ، وأن تترك القسمة بينهن ، وأبحنا لك - أيضا - أن تعود إلى طلب من اجتنبت مضاجعتها إذ لا حرج عليك فى كل ذلك . بعد أن فوضنا الأمر إلى مشيئتك واختيارك .
فالابتغاء بمعنى الطلب ، وعزلت اجتنبت واعتزلت وابتعدت ، و { مَّنْ } شرطية ، وجوابها : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أى : فلا حرج ولا إثم عليك فى عدم القسمة بين أزواجك ، وفى طلب إيواء من سبق لك أن اجتنبتها .
قال الشوكانى : والحاصل أن الله - سبحانه - فوض الأمر إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كى يصنع مع زوجاته ما شاء ، من تقديم وتأخير ، وعزل وإمساك ، وضم من أرجأ ، وإرجاء من ضم إليه ، وما شاء فى أمرهن فعل توسعة عليه ، ونفيا للحرج عنه .
وإسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ . . . } يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق من تفويض أمر الإِرجاء والإِيواء إلى النبى صلى الله عليه وسلم .
وأدنى بمعنى أقرب . { تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } كناية عن تقبل ما يفعله معهن برضا وارتياح نفس . يقال قرت عين فلان ، إذا رأت ما ترتاح لرؤيته ، مأخوذ من ا لقرار بمعنى الاستقرار والسكون . .
وقوله : { وَلاَ يَحْزَنَّ } معطوف على { أَن تَقَرَّ } وقوله { وَيَرْضَيْنَ } معطوف عليه - أيضا - .
والمعنى ، ذلك شرعناه لكل من تفويض الأمر اليك فى شأن أزاجك ، أقرب إلى رضى نفوسهن لما تصنعه معهن ، واقرب إلى عدم حزنهن وإلى قبولهن لما تفعله معهن ، لأنهن يعلمن أن ما تفعله معهن إنما هو من الله - تعالى - وليس باجتهاد منك ، ومتى علمن ذلك طابت نفوسهن سواء ويت بينهن فى القسم والبيتوتة والمجامعة . . أم لم تسو .
قال القرطبى : قال قتادة وغيره : أى : ذلك التخيير ذلك خيرناك فى حصبتهن أدنى إلى رضاهن ، إذ كان من عندنا - لا من عندك - ، لأنهن إذا علمت أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين . .
وكان - عليه الصلاة والسلام - مع هذا يشدد على نفسه فى رعاية التسوية بينهن ، تطييبا لقلوبهن ويقول : " اللهم هذه قدرتى فيما أملك ، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك " .
وقوله - سبحانه - { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ولأزواجه ، ويندرج فيه جميع المؤمنين والمؤمنات وجمع بجمع الذكور للتغليب .
أى : والله - تعالى - يعلم ما فى قلوبكم من حب وبغض ، ومن ميل إلى شئ ، ومن عدم الميل إلى شئ آخر .
قال صاحب الكشاف : وفى هذه الجملة وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله - تعالى - من ذلك ، وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافى بينهن ، والتوافق على طلب رضا رسولا لله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه .
{ وَكَانَ الله } - تعالى - { عَلِيماً } بكل ما تظهره القلوب وما تسره { حَلِيماً } حيث لم يعاجل عباده بالعقوبة قبل الإرشاد والتعليم .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر{[35]} ، حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه{[36]} عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أنها كانت تُعَيِّر{[37]} النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، قالت : إني أرَى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك{[38]} .
وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة ، عن هشام بن عُرْوَة ، فدل هذا على أن المراد بقوله : { تُرْجِي } أي : تؤخر { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } أي : من الواهبات [ أنفسهن ]{[39]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : مَنْ شئت قبلتها ، ومَنْ شئت رددتها ، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك ، إن شئت عُدْتَ فيها فآويتها ؛ ولهذا قال : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } . قال عامر الشعبي في قوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم يُنْكحن بعده ، منهن أم شريك .
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : من أزواجك ، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن ، فتقدم من شئت ، وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت ، وتترك من شئت .
هكذا يروى عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رَزين ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، ومع هذا كان ، صلوات الله وسلامه عليه ، يقسم لهن ؛ ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه ، صلوات الله وسلامه عليه ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة .
وقال{[40]} البخاري : حدثنا حبّان بن موسى ، حدثنا عبد الله - هو ابن المبارك - أخبرنا عاصم الأحول ، عن مُعَاذة{[41]} عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، فقلت لها : ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا{[42]} .
فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من{[43]} ذلك عدم وجوب القسم ، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده ، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم . وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، وفيه جمع بين الأحاديث ؛ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : إذا علمن أن الله قد وضع عنك{[44]} الحَرَج في القسم ، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك ، واعترفن بمنتك{[45]} عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن .
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : من الميل إلى بعضهن دون بعض ، مما لا يمكن دفعه ، كما قال{[46]} الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " .
ورواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حماد بن سلمة -{[47]} وزاد أبو داود بعد قوله : فلا تلمني {[48]} فيما تملك ولا أملك : يعني القلب . وإسناده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات . ولهذا عقب ذلك بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } أي : بضمائر السرائر ، { حَلِيمًا } أي : يحلم ويغفر .
القول في تأويل قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلاَ يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقال بعضهم : عنى بقوله : ترجي : تؤخّر ، وبقوله : تؤْوي : تضمّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ يقول : تؤخر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ قال : تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : تردّها إليك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : فجعله الله في حلّ من ذلك أن يدع من يشاء منهنّ ، ويأتي من يشاء منهنّ بغير قسم ، وكان نبيّ الله يقسم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن منصور ، عن أبي رزين تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : لما أشفقن أن يطلقهنّ ، قلن : يا نبيّ الله ، اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت فكان ممن أرجأ منهنّ سودة بنت زمعة ، وجُوَيرية ، وصفية ، وأمّ حبيبة ، وميمونة وكان ممن آوى إليه : عائشة ، وأمّ سلمة ، وحفصة ، وزينب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فما شاء صنع في القسمة بين النساء ، أحل الله له ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير عن منصور ، عن أبي رزين ، في قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وكان ممن آوى عليه الصلاة والسلام : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأمّ سلمة ، فكان قسمه من نفسه لهنّ سويّ قسمه وكان ممن أرجى : سودة ، وجُوَيرية ، وصفية ، وأمّ حبيبة ، وميمونة ، فكان يقسم لهنّ ما شاء ، وكان أراد أن يفارقهنّ ، فقلن : اقسم لنا من نفسك ما شئت ، ودعنا نكون على حالنا .
وقال آخرون : معنى ذلك : تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك ، وتمسك من شئت منهنّ فلا تطلق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ أمها المؤمنين وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ يعني : نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويعني بالإرجاء : يقول : من شئت خليت سبيله منهنّ ، ويعني بالإيواء : يقول : من أحببت : أمسكت منهنّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تترك نكاح من شئت ، وتنكح من شئت من نساء أمتك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن في قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوّجها أو يتركها .
وقيل : إن ذلك إنما جعل الله لنبيه حين غار بعضهنّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وطلب بعضهنّ من النفقة زيادة على الذي كان يعطيها ، فأمره الله أن يخيرهنّ بين الدار الدنيا والاَخرة ، وأن يخلي سبيل من اختار الحياة الدنيا وزينتها ، ويمسك من اختار الله ورسوله فلما اخترن الله ورسوله قيل لهنّ : اقررن الاَن على الرضا بالله وبرسوله ، قَسَم لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لم يقسم ، أو قسم لبعضكنّ ، ولم يقسم لبعضكنّ ، وفضل بعضكنّ على بعض في النفقة ، أو لم يفضل ، سوّى بينكنّ ، أو لم يسوّ ، فإن الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس لكم من ذلك شيء . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر مع ما جعل الله له من ذلك ، يسوّي بينهنّ في القَسم ، إلا امرأة منهنّ أراد طلاقها ، فرضيت بترك القسم لها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سيفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، قال : لما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطلق أزواجه ، قلن له : افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت ، فأمره الله فآوى أربعا ، وأرجى خمسا .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبيدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل حتى أنزل الله . تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقلت : إن ربك ليسارع في هواك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، يعني العبدي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : أما تستحيي امرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ، فنزلت ، أو فأنزل الله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فقلت : إني لأرى ربك يُسارع لك في هواك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ . . . الاَية . قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهجرهن شهرا ، ثم نزل التخيير من الله له فيهنّ ، فقرأ حتى بلغ : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى فخيرهنّ بين أن يخترن أن يخلي سبيلهنّ ويسرّحهنّ وبين أن يقمن إن أردن الله ورسوله على أنهنّ أمهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهنّ ممن وهبت نفسها له حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء ، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل فلا جناح عليه ، ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ، ويرضين إذا علمن أنه من قضائي عليهنّ إيثار بعضهنّ على بعض ذلكَ أدْنَى أنْ يرضين ، قال : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممن عزلت : من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهنّ بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهنّ ، فاخترن الله ورسوله ، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت . وكان على ذلك صلوات الله عليه ، وقد شرط الله له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أحلهنّ له من يشاء ، ويُؤوي إليه منهنّ من يشاء ، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كنّ في حباله ، عندما نزلت هذه الاَية دون غيرهنّ ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهنّ . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : تؤخر من تشاء ممن وهبت نفسها لك ، وأحللت لك نكاحها ، فلا تقبلها ولا تنكحها ، أو ممن هنّ في حبالك ، فلا تقربها ، وتضمّ إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك ، أو أردت من النساء التي أحللت لك نكاحهنّ ، فتقبلها أو تنكحها ، وممن هي في حبالك فتجامعها إذا شئت ، وتتركها إذا شئت بغير قَسْم .
وقوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن نكحت من نسائك فجامعت ممن لم تنكح ، فعزلته عن الجماع ، فلا جناح عليك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قال : جميعا هذه في نسائه ، إن شاء أتى من شاء منهنّ ، ولا جناح عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ قال : ومن ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن استبدلت ممن أرجيت ، فخليت سبيله من نسائك ، أو ممن مات منهنّ ممن أحللت لك فلا جناح عليك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بما آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ يعني بذلك : النساء اللاتي أحلّ الله له من بنات العمّ والعمة والخال والخالة واللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ يقول : إن مات من نسائك اللاتي عندك أحد ، أو خليت سبيله ، فقد أحللت لك أن تستبدل من اللاتي أحللت لك مكان من مات من نسائك اللاتي هنّ عندك ، أو خليت سبيله منهنّ ، ولا يصلح لك أن تزداد على عدّة نسائك اللاتي عندك شيئا .
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من قال : معنى ذلك : ومن ابتغيت إصابته من نسائك ممّنْ عَزَلْتَ عن ذلك منهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ لدلالة قوله : ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ على صحة ذلك ، لأنه لا معنى لأن تقرّ أعينهنّ إذا هو صلى الله عليه وسلم استبدل بالميتة أو المطلقة منهنّ ، إلا أن يعني بذلك : ذلك أدنى أن تقرّ أعين المنكوحة منهنّ ، وذلك مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد .
وقوله : ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ يقول : هذا الذي جعلت لك يا محمد من إذني لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتي جعلت لك إرجاءهنّ ، وتؤوي من تشاء منهنّ ، ووضعي عنك الحرج في ابتغائك إصابة من ابتغيت إصابته من نسائك ، وعزلك عن ذلك من عزلت منهنّ ، أقرب لنسائك أن تقرّ أعينهنّ به ولا يَحْزَنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلهنّ من تفضيل من فضلت من قسم ، أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك على غيره من نسائك ، إذا هنّ علمن أنه من رضاي منك بذلك ، وإذني لك به ، وإطلاق مني لا من قِبَلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ إذا علمن أن هذا جاء من الله لرخصة ، كان أطيب لأنفسهنّ ، وأقلّ لحزنهنّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ذلك ، نحوه .
والصواب من القراءة في قوله : بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ الرفع غير جائز غيره عندنا ، وذلك أن كلهنّ ليس بنعت للهاء في قوله آتَيْتَهُنّ ، وإنما معنى الكلام : ويرضين كلهنّ ، فإنما هو توكيد لما في يرضين من ذكر النساء وإذا جعل توكيدا للهاء التي في آتيتهنّ لم يكن له معنى ، والقراءة بنصبه غير جائزة لذلك ، ولإجماع الحجة من القرّاء على تخطئة قارئه كذلك .
وقوله : وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ يقول : والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة يقول : فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وُضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهنّ ، ممن عزلت تفضلاً منه عليك بذلك وتكرمة وكانَ اللّهُ عَلِيما يقول : وكان الله ذا علم بأعمال عباده ، وغير ذلك من الأشياء كلها حَلِيما يقول : ذا حلم على عباده ، أن يعاجل أهل الذنوب منهم بالعقوبة ، ولكنه ذو حلم وأناة عنهم ، ليتوب من تاب منهم ، وينيب من ذنوبه من أناب منهم .
{ ترجي من تشاء منهن } تؤخرها وتترك مضاجعتها . { وتؤوي إليك من تشاء } وتضم إليك من تشاء وتضاجعها ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء . وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص " ترجي " بالياء والمعنى واحد . { ومن ابتغيت } طلبت . { ممن عزلت } طلقت بالرجعة . { فلا جناح عليك } في شيء من ذلك . { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن } ذلك التفويض إلى مشيئتك اقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا ، لأن حكم كلهن فيه سواء ، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن انه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهم ، وقرئ " تقر " بضم التاء و " أعينهن " بالنصب و " تقر " بالبناء للمفعول و " كلهن " تأكيد نون { يرضين } ، وقرئ بالنصب تأكيدا لهن . { والله يعلم ما في قلوبكم } فاجتهدوا في إحسانه . { وكان الله عليما } بذات الصدور . { حليما } لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى .
{ ترجى } معناه تؤخر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم{[9547]} «ترجيء » بالهمز ، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «ترجي » بغير همز وهما لغتان بمعنى ، { وتؤوي } معناه تضم وتقرب وقال المبرد هو معدى رجى يرجو تقول : رجى الرجل وأرجيته جعلته ذا رجاء ، ومعنى هذه الآية أن الله فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء ، والضمير في { منهن } عائد على من تقدم ذكره من الأصناف حسب الخلاف المذكور في ذلك ، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني ، منها أن معناه في القسم أن تقرب من شئت في القسمة لها من نفسك ، وتؤخر عنك من شئت ، وتكثر لمن شئت ، وتقل من شئت ، لا حرج عليك في ذلك ، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله تعالى لك وقضاؤه زالت الأنفة والتغاير عنهن ورضين وقرت أعينهن وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك .
قال الفقيه الإمام القاضي : لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايراً وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك ، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات ، وقال أبو رزين وابن عباس المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته وإمساك من شاء ، قال أبو زيد : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له أقسم لنا ما شئت فكان ممن أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة وآوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى في تزويج من شاء من النساء وترك من شاء ، وقالت فرقة المعنى في ضم من شاء من الواهبات وتأخير من شاء .
قال القاضي أبو محمد : وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة له ، قالت عائشة : لما قرأ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك{[9548]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهبت هبة الله في الناسخ والمنسوخ له إلى أن قوله { ترجي من تشاء } الآية ناسخ لقوله { لا يحل لك النساء من بعد } الآية ، وقال ليس في كتاب الله تعالى ناسخ تقدم المنسوخ إلا هذا .
قال الفقيه الإمام القاضي : وكلامه يضعف من جهات{[9547]} .
وقوله عز وجل { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } يحتمل معاني : أحدها أن تكون { من } للتبعيض ، أي من إرادته وطلبته نفسه ممن قد كنت عزلته فلا جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليه بعد عزلته ، ووجه ثان وهو أن يكون مقوياً ومؤكداً لقوله { ترجى من تشاء وتؤوي من تشاء } فيقول بعد { ومن ابتغيت ممن عزلت } فذلك سواء { فلا جناح عليك } في جمعه ، وهذا كما تقول من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك شاكر وأنت تريد من لقيك ومن لم يلقك ، وهذا المعنى يصح أن يكون في معنى القسم ، ويصح أن يكون في الطلاق والإمساك وفي الواهبات ، وبكل واحد قالت فرقة : وقرأ جمهور الناس «ذلك أدنى أن تقر أعينُهن » برفع «الأعين » ، وقرأ ابن محيصن «أن تُقر أعينَهن » بضم التاء ونصب «الأعين » ، وقوله { بما آتيتهن } أي من نفسك ومالك ، وقرأ جمهور الناس «كلُّهن » بالرفع على التأكيد للضمير في { يرضين } ولم يجوز الطبري غير هذا ، وقرأ جويرية بن عابد{[9548]} بالنصب على التأكيد في { آتيتهن } .
قال الفقيه الإمام القاضي : والمعنى أنهن يسلمن لله ولحكمه وكن قبل لا يتسامحن بينهن للغيرة ولا يسلمن للنبي صلى الله عليه وسلم أنفة ، نحا إلى هذا المعنى ابن زيد وقتادة ، وقوله تعالى : { والله يعلم ما في قلوبكم } خبر عام ، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ، وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمنون . وقوله { حليماً } صفة تقتضي صفحاً وتأنيساً في هذا المعنى ، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب ، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل ، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمناً لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،