ثم ذكر الجزاء فقال : { أولئك لهم جنات عدن } أي : إقامة ، يقال : عدن فلان بالمكان إذا أقام به ، سميت عدناً لخلود المؤمنين فيها ، { تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب } ، قال سعيد بن جبير : يحلى كل واحد منهم ثلاث أساور ، واحد من ذهب ، وواحد من فضة ، وواحد من لؤلؤ ويواقيت ، { ويلبسون ثياباً خضراً من سندس } ، وهو ما رق من الديباج ، { وإستبرق } ، وهو ما غلظ منه ، ومعنى الغلظ في ثياب الجنة : إحكامه . وعن أبي عمران الجوني قال : السندس هو الديباج المنسوج بالذهب ، { متكئين فيها } في الجنان { على الأرائك } ، وهي السرر في الحجال ، واحدتها أريكة ، { نعم الثواب } أي : نعم الجزاء { وحسنت } الجنان { مرتفقاً } أي : مجلساً ومقراً .
وذكر أجرهم بقوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ }
أي : أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها ، فأجنت من فيها ، وكثرت أنهارها ، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة ، والمنازل الرفيعة ، وحليتهم فيها الذهب ، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس ، وهو الغليظ من الديباج ، والإستبرق ، وهو ما رق منه . متكئين فيها على الأرائك ، وهي السرر المزينة ، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة حتى تكون كذلك ، وفي اتكائهم على الأرائك ، ما يدل على كمال الراحة ، وزوال النصب والتعب ، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون ، وتمام ذلك الخلود الدائم والإقامة الأبدية ، فهذه الدار الجليلة { نِعْمَ الثَّوَابُ } للعاملين { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } يرتفقون بها ، ويتمتعون بما فيها ، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، من الحبرة والسرور ، والفرح الدائم ، واللذات المتواترة ، والنعم المتوافرة ، وأي مرتفق أحسن من دار ، أدنى أهلها ، يسير في ملكه ونعيمه وقصوره وبساتينه ألفي سنة ، ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم ، قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه ، وزيد من المطالب ، ما قصرت عنه الأماني ، ومع ذلك ، فنعيمهم على الدوام متزايد في أوصافه وحسنه ، فنسأل الله الكريم ، أن لا يحرمنا خير ما عنده من الإحسان ، بشر ما عندنا من التقصير والعصيان .
ودلت الآية الكريمة وما أشبهها ، على أن الحلية ، عامة للذكور والإناث ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة لأنه أطلقها في قوله { يُحَلَّوْنَ } وكذلك الحرير ونحوه .
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ألوان النعيم فقال : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ } .
ولفظ { عدن } بمعنى إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول . وأصله من عدن فلان بالمكان . إذ أقام به واستقر فيه .
أى : أولئك الذين عمروا دنياهم بالإِيمان والعمل الصالح لهم جنات يقيمون فيها إقامة دائمة ، تجرى من تحت مساكنهم الأنهار .
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } والأساور : جمع سوار . وهو نوع من الحلى يلبس بزند اليد .
أى : يلبسون فى تلك الجنات أساور من ذهب على سبيل التزين والتكريم .
ولا مانع من أن يضاف إلى هذه الأساور الذهبية ، أساور أخرى من فضة ، وثالثة من لؤلؤ كما فى قوله - تعالى - :
{ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ }
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً . . }
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " .
وقوله { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } معطوف على ما قبله .
والسندس : ما رق من الحرير واحده سندسة .
والإِستبرق : ما غلظ منه وثخن ، واحده إستبرقة .
أى : يتزينون فى الجنات بأساور من ذهب ، ويلبسون فيها ثيابا خضرا من رقيق الحرير ومن غليظه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } .
والأرائك : جمع أريكة . وهو كل ما يتكأ عليه من سرير أو فراش .
أى : متكئين فى الجنات على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين { نعم الثواب } ذلك الذى وعدهم الله - تعالى - به { وحسنت } تلك الأرائك فى الجنات { مرتفقا } .
أى : متكأ ومقرا ومجلسا ومسكنا .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد اشتملت على ألوان متعددة من التكريم والثواب لأولئك المؤمنين الذين عمروا دنياهم بالعمل الصالح .
فقد بشرهم - سبحانه - بجنات عدن ، ثم بشرهم ثانيا بأن الأنهار تجرى من تحتهم ، ثم بشرهم ثالثا بأنهم يحلون فيها من أساور من ذهب ، ثم بشرهم رابعا بأنهم يلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ، ثم بشرهم خامساً ، بأنهم يتكئون فى تلك الجنات على الأرائك .
وفى هذه البشارات ما فيها من الحض على المسارعة إلى العمل الصالح ، الذى يرفع درجات المؤمن إلى أعلى عليين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا هذا الفضل ، فهو أكرم مسئول ، وأعظم مأمور .
ثم ساقت السورة الكريمة مثلا للنفس الإِنسانية المغرورة المتفاخرة بزينة الحياة الدنيا ، الجاحدة لنعم الله . . . وللنفس الإِنسانية المتواضعة ، المعتزة بعقيدتها السليمة ، الشاكرة لربها . . . لكى يكون فى هذا المثل عبرة وعظة لمن كان له قلب ، فقال - تعالى - : { وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } .
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء ، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به ، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلهم { جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدن : الإقامة .
{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } أي : من تحت غرفهم ومنازلهم ، قال [ لهم ]{[18163]} فرعون : { وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } [ الزخرف : 51 ] .
{ يُحَلَّوْنَ } أي : من الحلية { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } وقال في المكان الآخر : { وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] وفصله هاهنا فقال : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } فالسندس : لباس{[18164]} رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها ، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق .
وقوله : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } الاتكاء قيل : الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس . وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [ في ]{[18165]} الصحيح : " أما أنا فلا آكل متكئًا " {[18166]} فيه القولان .
والأرائك : جمع أريكة ، وهي السرير تحت الحَجَلة ، والحجلة كما يعرفه{[18167]} الناس في زماننا هذا بالباشخاناه ، والله أعلم .
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَرُ ، عن قتادة : { عَلَى الأرَائِكِ } قال : هي الحجال . قال معمر : وقال غيره : السّرُر في الحجال{[18168]}
وقوله : { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } [ أي : نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } أي : حسنت منزلا ومقيلا ومقامًا ، كما قال في النار : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [ الكهف : 29 ]{[18169]} ، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 76 ، 75 ] .