اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا} (31)

واعلم أنَّه تعالى ، لمَّا أثبت الأجر المبهم ، أردفه بالتفصيل ، فبيَّن أولاً صفة مكانهم ، فقال : { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدنُ في اللغة عبارة عن الإقامة ، يقال : عدن بالمكان ، إذا أقام به ، فيجوز أن يكون المعنى : أولئك لهم جنات إقامة [ كما يقال : دار إقامة ]{[21027]}

ويجوز أن يكون العدن اسماً [ لموضع ]{[21028]} معيَّن في الجنَّة ، وهو وسطها .

وقوله : " جنَّاتُ " اسم جمع ، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم قال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] ويمكن أن يكون المراد نصيب كلِّ واحدٍ من المكلَّفين جنَّة على حدةٍ ، ثم ذكر أنَّ من صفات تلك الجنات أنَّ الأنهار تجري من تحتها ، وذلك لأنَّ أحسن مساكن الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار ، ثمَّ ذكر ثانياً أنَّ لباسهم فيها ينقسم قسمين : لباسُ التستُّر ، ولباس التحلِّي .

فأمَّا لباس التحلِّي فقال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } فقيل : على كلِّ واحد منهم ثلاثة أسورة : سوارٌ من ذهبٍ لهذه الآية ، وسوار من فضَّة ؛ لقوله :

{ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [ الإنسان : 21 ] ، وسوار من لؤلؤ ؛ لقوله { وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] .

وأمَّا لباسُ التستُّر ، فلقوله : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } .

فالأول : هو الدِّيباجُ الرَّقيق .

والثاني : هو الديباجُ الصَّفيق .

وقيل : أصله فارسيٌّ معرَّبٌ ، وهو " إستبره " : أي غليظٌ .

قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ } : في " مِنْ " هذه أربعة أوجه :

الأوّل : أنها للابتداءِ .

والثاني : أنها للتبعيض .

والثالث : أنها لبيان الجنس ، أي : أشياء من أساور .

والرابع : أنها زائدة عند الأخفش ؛ ويدلُّ عليه قوله : { وحلوا أَسَاوِرَ } [ الإنسان : 21 ] . [ ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء ]{[21029]} .

وأساور جمع أسورةٍ ، [ وأسْوِرَة ] جمع سِوار ، كحِمار وأحْمِرة ، فهو جمع الجمع . وقيل : جمع إسوارٍ ، وأنشد : [ الرجز ]

واللهِ لَوْلاَ صِبْيَةٌ صِغَارُ *** كَأنَّمَا وجُوهُهمْ أقْمَارُ

أخَافُ أنْ يُصِيبَهُمْ إقْتَارُ *** أو لاطِمٌ ليْسَ لهُ إسْوَارُ

لمَّا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ *** بِبَابهِ مَا طَلَعَ النَّهارُ{[21030]}

وقال أبو عبيدة : هو جمع " إسوارٍ " على حذف الزيادة ، وأصله أساوِيرُ .

وقرأ{[21031]} أبان ، عن عاصم " أسْوِرَة " جمع سوارٍ ، وستأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف [ الزخرف : 30 ] هاتان القراءتان في المتواتر ، وهناك يذكر الفرق إن شاء الله تعالى .

والسِّوارُ يجمع في القلَّة على " أسْوِرَةٍ " وفي الكثرة على " سُورٍ " بسكون الواو ، وأصلها كقُذلٍ وحُمرٍ ، وإنما سكنت ؛ لأجل حرف العلَّة ، وقد يضمُّ في الضرورة ، قال : [ السريع ]

عَنْ مُبرِقاتٍ بالبُرِينِ وتَبْ *** دُو في الأكُفِّ اللامعاتِ سُورْ{[21032]}

وقال أهل اللغة : السِّوارُ : ما جعل في الذِّراعِ من ذهبٍ ، أو فضَّة ، أو نحاسٍ ، فإن كان من عاج ، فهو قلبٌ .

قوله : " مِنْ ذهبٍ " يجوز أن تكون للبيان ، أو للتبعيض ، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ ؛ صفة لأساور ، فموضعه جرٌّ ، وأن تتعلق بنفس " يُحلَّوْنَ " فموضعها نصبٌ .

قوله : " ويَلْبَسُونَ " عطف على " يُحلَّوْن " وبني الفعل في التحليةِ للمفعول ؛ إيذاناً بكرامتهم ، وأنَّ غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيِّنهم به ، كقول امرئ القيس : [ الطويل ]

عَرائِسُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمَةٍ *** يُحلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفقَّرا{[21033]}

بخلاف اللِّبس ، فإنَّ الإنسان يتعاطاه بنفسه ، وقدِّم التَّحلِّي على اللباس ؛ لأنه أشهى للنَّفس .

وقرأ{[21034]} أبان عن عاصم " ويَلْبِسُونَ " بكسر الباء .

قوله : { مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } " مِنْ " لبيانِ الجنس ، وهي نعتٌ لثياب .

والسُّندسُ : ما رقَّ من الدِّيباج ، والإستبرق : ما غلظ منه وعن أبي عمران الجونيِّ قال : السُّندسُ : هو الديباجُ المنسوج بالذَّهب{[21035]} ، وهما جمعُ سندسةٍ وإستَبْرقةٍ ، وقيل : ليسا جمعين ، وهل " إسْتَبْرق " عربيُّ الأصل ، مشتقٌّ من البريق ، أو معرب أصله إستبره ؟ خلاف بين اللغويين . وقيل : الإستبرق اسم للحرير وأنشد للمرقش{[21036]} : [ الطويل ]

تَراهُنَّ يَلبَسْنَ المشَاعِر مرَّةً *** وإسْتَبْرَقُ الدِّيباجِ طَوراً لِباسُهَا{[21037]}

وهو صالحٌ لما تقدَّم ، وقال ابن بحر : " الإستبرقُ : ما نسج بالذَّهب " .

ووزن سُنْدسٍ : فُعْلُلٌ ، ونونه أصليةٌ .

وقرأ{[21038]} ابن محيصن " واستبرق " بوصل الهمزة وفتح القافِ غير منونة ، فقال ابن جنِّي : " هذا سهوٌ ، أو كالسَّهو " قال شهاب الدين : كأنه زعم أنَّه منعه الصَّرف ، ولا وجه لمنعه ؛ لأنَّ شرط منع الاسم الأعجمي : أن يكون علماً ، وهذا اسم جنسٍ ، وقد وجَّهها غيره على أنه جعلها فعلاً ماضياً من " البريق " و " استَفْعَلَ " بمعنى " فعل " المجرد ؛ نحو : قرَّ ، واستقرَّ . وقال الأهوازيُّ في " الإقناعِ " : " واسْتَبْرَقَ بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه " وظاهر هذا أنه اسم ، وليس بفعلٍ ، وليس لمنعه وجه ؛ كما تقدَّم عن ابن جنِّي ، وصاحب " اللوامح " لمَّا ذكر وصل الهمزة ، لم يزد على ذلك ، بل نصَّ على بقائه منصرفاً ، ولم يذكر فتح القاف أيضاً ، وقال ابنُ محيصنٍ : " واسْتَبْرَق " بوصل الهمزة في جميع القرآن ، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً ؛ على غير قياسٍ ، ويجوز أنَّه جعله عربيًّا من بَرِق يبرقُ بريقاً ، ووزنه استفعل ، فلمَّا سمِّي به ، عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة التمكين من الأسماء في الصَّرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنَّه عربية ، وليس بمستعربٍ ، دخل في كلامهم ، فأعربوه " .

قوله : " مُتَّكئين " حالٌ ، والأرائِكُ : جمع أريكةٍ ، وهي الأسرَّة ، بشرط أن تكون في الحجالِ ، فإن لم تكن لم تسمَّ أريكة ، وقيل : الأرائكُ : الفرشُ في الحجالِ أيضاً ، وقال الراغب{[21039]} : " الأريكةُ : حجلة على سريرٍ ، فتسميتها بذلك : إمَّا لكونها في الأرض متَّخذة من أراك ، أو من كونها مكاناً للإقامة ؛ من قولهم : أَرَكَ بالمكانِ أروكاً ، وأصل الأروكِ الإقامة على رعي الأرَاكِ ، ثم تجوز به في غيره من الإقامات " .

وقرأ{[21040]} ابن محيصن " عَلَّرائِكِ " وذلك : أنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، فالتقى مثلان : لام " على " - فإنَّ ألفها حذفت ؛ لالتقاء الساكنين - ولام التعريف ، واعتدَّ بحركة النقل ، فأدغم اللام في اللام ؛ فصار اللفظ كما ترى ، ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]

فَمَا أصْبحَتْ عَلَّرْضِ نفسٌ بَريئةٌ *** ولا غَيْرُهَا إلاَّ سُليْمَانُ نَالهَا{[21041]}

يريد " عَلَى الأرض " وقد تقدَّم قراءة قريبة من هذه أوَّل البقرة : " بما أنزِلَّيكَ " ، أي : أنزل إليك .

قوله : نعم الثواب " أي : نعم الجزاء .

قوله : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } مجلساً ، ومقرّاً ، وهذا في مقابلة قوله : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ] .


[21027]:سقط من أ.
[21028]:في أ: المكان.
[21029]:ينظر: الإملاء 2/102.
[21030]:ينظر: البحر المحيط 6/792 روح المعاني 15/270، الدر المصون 4/452.
[21031]:ينظر: البحر 6/116، الدر المصون 4/452.
[21032]:تقدم.
[21033]:تقدم.
[21034]:ينظر: البحر 6/116، الدر المصون 4/453.
[21035]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/161).
[21036]:سقط من أ.
[21037]:ينظر البيت في البحر المحيط 6/93، الطبري 15/159، القرطبي 10/258، روح المعاني 15/271، الدر المصون 4/453.
[21038]:ينظر :المحتسب 2/29، والإتحاف 2/213، والبحر 6/117، والدر المصون 4/453.
[21039]:ينظر : المفردات 16.
[21040]:ينظر: البحر 119، والدر المصون 4/454.
[21041]:ينظر البيت في البحر المحيط 6/117، الدر المصون 4/454.