الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا} (31)

لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب . وفي الكلام إضمار ، أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا ، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط . و " عملا " نصب على التمييز ، وإن شئت بإيقاع " أحسن " عليه . وقيل : " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " كلام معترض ، والخبر قوله " أولئك لهم جنات عدن " . و " جنات عدن " سُرَّةُ الجنة ، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها ؛ لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل : العدن الإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته ، وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه ، ومنه " جنات عدن " أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن ( بكسر الدال ) ؛ لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن : الناقة المقيمة في المرعى . وعدن بلد ، قاله الجوهري . " تجري من تحتهم الأنهار " تقدم في غير موضع{[10519]} . " يحلون فيها من أساور من ذهب " وهو جمع سوار . قال سعيد بن جبير : على كل واحد منهم ثلاثة أسورة : واحد من ذهب ، وواحد من ورق ، وواحد من لؤلؤ .

قلت : هذا منصوص في القرآن ، قال هنا " من ذهب " وقال في الحج{[10520]} وفاطر{[10521]} " من ذهب{[10522]} ولؤلؤا " [ الحج : 23 ] وفي الإنسان{[10523]} " من فضة " [ الإنسان : 21 ] . وقال أبو هريرة : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) خرجه مسلم . وحكى الفراء : " يحلون " بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة ، يقال : حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي . وحلي الشيء بعيني يحلى ، ذكره النحاس . والسوار سوار المرأة ، والجمع أسورة ، وجمع الجمع أساورة . وقرئ " فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب " [ الزخرف : وقد يكون الجمع أساور . وقال الله تعالى " يحلون فيها من أساور من ذهب " قاله الجوهري . وقال ابن عزيز : أساور جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار وسوار ، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب ، فإن كان من فضة فهو قُلْب وجمعه قِلَبَة ، فإن كان من قرن أو عاج فهي مَسَكَة وجمعه مَسَك . قال النحاس : وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار ، وقطرب صاحب شذوذ ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره .

قلت : قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء : وأحدها إسوار . وقال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور . والتيجان جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة .

قوله تعالى : " ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق " السندس : الرفيق النحيف ، واحده سندسة ، قال الكسائي . والإستبرق : ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير . قال الشاعر :

تراهنّ يلبسن المشاعر مرة *** وإستبرقُ الديباج طوراً لباسُهَا

فالإستبرق الديباج . ابن بحر : المنسوج بالذهب . القتبي : فارسي معرب . الجوهري : وتصغيره أبيرق . وقيل : هو استفعل من البريق . والصحيح أنه وفاق بين اللغتين ؛ إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب ، على ما تقدم ، والله أعلم . "

وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر ؛ لأن البياض يبدد النظر ويؤلم ، والسواد يذم ، والخضرة بين البياض والسواد ، وذلك يجمع الشعاع . والله أعلم . روى النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال : يا رسول الله ، أخبرنا عن ثياب الجنة ، أخلق يخلق أم نسج ينسج ؟ فضحك بعض القوم . فقال لهم : ( مم تضحكون من جاهل يسأل عالما ) فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أين السائل عن ثياب الجنة ) ؟ فقال : ها هو ذا يا رسول الله ، قال ( لا بل تشقق عنها ثمر الحنة ) قالها ثلاثا . وقال أبو هريرة : دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان . ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه . وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة . وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون ، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه ، يقول أحد الوجهين للآخر : أنا أكرم على ولي الله منك ، أنا ألي جسده وأنت لا تلي . ويقول الآخر : أنا أكرم على ولي الله منك ، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر .

قوله تعالى : " متكئين فيها على الأرائك " " الأرائك " جمع أريكة ، وهي السرر في الحجال{[10524]} . وقيل الفرش في الحجال ، قاله الزجاج . ابن عباس : هي الأسرة من ذهب ، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال ، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية . وأصل متكئين موتكئين ، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ ، وأصل التكأة وكأة ، ومنه التوكأ للتحامل على الشيء ، فقلبت الواو تاء وأدغمت . ورجل وكأة كثير الاتكاء . " نعم الثواب وحسنت مرتفقا " يعني الجنات ، عكس " وساءت مرتفقا " . وقد تقدم . ولو كان " نعمت " لجاز لأنه اسم للجنة . وعلى هذا " وحسنت مرتفقا " . وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال : إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم ) ذكره الماوردي ، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن ، قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : قام أعرابي . . . ؛ فذكره . وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام . وقد روينا جميع ذلك بالإجازة ، والحمد لله .


[10519]:راجع جـ 1 ص 239.
[10520]:راجع جـ 12 ص 28.
[10521]:راجع جـ 14 ص ....
[10522]:راجع جـ 16 ص 100.
[10523]:راجع جـ 19 ص 141.
[10524]:الحجال، جمع الحجلة (بفتحتين) كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور والأسرة للعروس.