قوله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } ، معناه : أنه لا سبيل على الأولين ولا على هؤلاء الذين أتوك وهم سبعة نفر سموا البكائين : معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء ، وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وعلبة بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة ، وعبد الله بن مغفل المزني ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا . واختلفوا في قوله : { لتحملهم } قال ابن عباس : سألوه أن يحملهم على الدواب . وقيل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ، ليغزوا معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا أجد ما أحملكم عليه " تولوا ، وهم يبكون ، فذلك قوله تعالى : { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } .
{ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ْ } فلم يصادفوا عندك شيئا { قُلْتَ ْ } لهم معتذرا : { لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ْ } فإنهم عاجزون باذلون لأنفسهم ، وقد صدر منهم من الحزن والمشقة ما ذكره اللّه عنهم .
فهؤلاء لا حرج عليهم ، وإذا سقط الحرج عنهم ، عاد الأمر إلى أصله ، وهو أن من نوى الخير ، واقترن بنيته الجازمة سَعْيٌ فيما يقدر عليه ، ثم لم يقدر ، فإنه ينزل منزلة الفاعل التام .
وقوله : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ . . } معطوف على ما قبله ، من عطف الخاص على العام ، اعتناء بشأنهم ، وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر ، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل ذلك { لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } .
أى : لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين يجدون ما ينفقون ، إذا ما تخلفوا عن الجهاد ، وكذلك لا حرج ولا إثم - أيضاً - على فقراء المؤمنين ، الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل التي يركبونها لكى يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل قلت لهم يا محمد " لا أجد ما أحملكم عليه " .
وفى هذا التعبير ما فيه من تطييب قلوب هؤلاء السائلين فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم إن ما تطلبونه أنا أسأل عنه ، وأفتش عليه فلا أجده ، ولو وجدته لقدمته إليكم .
وقوله : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } بيان للآثار التي ترتبت على عدم وجود ما يحملهم من رواحل : لكى يخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك .
أى : أن هؤلاء المؤمنين الفقراء ، عندما اعتذرت لهم بقولك : " لا أجد ما أحملكم عليه " انصرفوا من مجلسك ، وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في مطالب الجاهد ، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك .
فالجملة الكريمة تعطى صورة صادقة مؤثرة للرغبة الصادقة في الجهاد ، وللألم الشديدة للحرمان من نعمة أدائه .
وبمثل هذه الروح ارتفعت راية الإِسلام ، وعزت كلمته ، وانتشرت دعوته .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي نستطيع أن نأخذها من هاتين الآيتين ما يأتى : 1- أن التكاليف الإِسلامية تقوم على اليسر ورفع الحرج ، ومن مظاهر ذلك : أن الجهاد . وهو ذروة سنام الإِسلام ، قد أعفى الله - تعالى - منه الضعفاء والمرضى والذين يجدون وسائله ومتطلباته .
قال الإِمام القرطبى : قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز ، فكل من عجز عن شئ مسقط عنه ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال . ونظير هذه الآية قوله . تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } وقوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } 2- أنه متى وجدت النية الصادقة في فعل الخير . حصل الثواب وإن لم يكن هناك عمل ، بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر شرعى ، بشرهم النبى صلى الله عليه وسلم بأنهم مشاركون لمن خرج في الأجر .
قال الإِمام ابن كثير : في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً . ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم قالوا : وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر " .
وروى الإِمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولقد خلفتم بالمدينة رجالا ، ما قطعتم وادياً ، ولا سلكتم طريقاً ، إلا شاركوكم في الأجر ، حبسهم المرض " .
3- أن الصحابة - رضى الله عنهم - ضربوا أربوع الأمثال في الحرص على الجهاد والاستشهاد وأن أعذارهم الشرعية لم تمنع بعضهم من المشاركة في القتال . .
" فهذا عبد الله بن أم مكتوم وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء . وهذا عمرو ابن الجموح - وكان أعرج - يخرج من مقدمة الجيوش فيقول له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد عذرك " فيقول : " والله لأحقرن بعرجتى هذه الجنة " - أى لأتركن آثار أقدامى فيها .
ومن كان يؤتى به وهو يمشى بين الرجلين معتمدا عليهما من شدة ضعفه ومع ذلك يقف في صفوف المجاهدين .
وبهذه القلوب السليمة ، والغزائم القوية والنفوس القوية والنفوس النقية التي خالط الإِيمان شغافها . . ارتفعت كلمة الحق ، وعزت كلمة الإِسلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا} حرج {على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت} لهم يا محمد: {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} يعني انصرفوا عنك، {وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} في غزاتهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره ولا سبيل أيضا على النفر الذين إذا ما جاءوك "لتحملهم "يسألونك الحُمْلان ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداء الله معك يا محمد، قلت لهم: "لا أجد" حمولة أحملكم عليها "تَوَلّوْا" يقول: أدبروا عنك، "وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنا" وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون ويتحملون به للجهاد في سبيل الله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والحمل: إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك، تقول حمله يحمله حملا إذا أعطاه ما يحمل عليه. واللام في قوله "لتحملهم "لام الغرض، والمعنى جاؤك وأرادوا منك حملهم...
والفيض: الجري عن امتلاء من حزن قلوبهم.
والحزن: ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ، من حزن الأرض وهي الغليظة المسلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَوَلَّوْاْ} ولقد حصر الله المعذورين في التخلف: الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها...
{تَفِيضُ مِنَ الدمع} كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}: أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى قَبُولِ عُذْرِ الْمُعْتَذِرِ بِالْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ عَنْ التَّخَلُّفِ فِي الْجِهَادِ إذَا ظَهَرَ من حَالِهِ صِدْقُ الرَّغْبَةِ، مَعَ دَعْوَى الْمُعْجِزَةِ، كَإِفَاضَةِ الْعَيْنِ، وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ؛ لِقَوْلِهِ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ...} الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْخُرُوجُ فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ تَعْوِيلًا عَلَى النَّفَقَةِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ، حَاشَا مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا دُونَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ: إنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَادَةً لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَلَى الْعَادَةِ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ حَاله إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ يَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ عَلَيْهِ تَوَجُّهَهُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ أَدَاؤُهُ...
فإن قيل: أليس أن هؤلاء داخلون تحت قوله: {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} فما الفائدة في إعادته؟ قلنا: الذين لا يجدون ما ينفقون، هم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة، وهؤلاء المذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة، إلا أنهم لم يجدوا المركوب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
... قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن الأودي، حدثنا وَكيع، عن الربيع، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد خلفتم بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شَركوكم في الأجر"، ثم قرأ: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} الآية. وأصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم [مسيرًا] إلا وهم معكم". قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "نعم، حبسهم العذر "وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديًا، ولا سلكتم طريقًا إلا شَركوكم في الأجر، حبسهم المرض". ورواه مسلم، وابن ماجه، من طرق، عن الأعمش، به
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم عطف على ذلك قوله: {ولا على الذين إذا} وأكد المعنى بقوله: {ما أتوك} أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك {لتحملهم} وهم لا يجدون محملاً {قلت} أي أتوك قائلاً أو حال قولك... {لا أجد ما} أي شيئاً {أحملكم عليه} وأجاب {إذا} بقوله ويجوز أن يكون استئنافاً و "قلت "هو الجواب {تولوا} أي عن سماع هذا القول منك {وأعينهم تفيض} أي تمتلئ فتسيل، وإسناد الفيض إليها أبلغ من حيث أنها جعلت كلها دمعاً: ثم بين الفائض بقوله: {من الدمع} أي دمعاً والأصل: يفيض دمعها، ثم علل فيضها بقوله؛ {حزناً} ثم علل حزنهم بقوله: {ألا يجدوا} أي لعدم وجدانهم {ما ينفقون} فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك، وهذه قصة البكائين صرح بها وإن كانوا داخلين في {الذين لا يجدون} إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح -وإن اجتهد- لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم -مع اجتهادهم في تحصيل الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم- ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} هذا معطوف على نفي الحرج عن الضعفاء والمرضى والفقراء ونفي السبيل عن المحسنين، أي لا حرج على من ذكر بشرطه، ولا سبيل على المحسن منهم في قعوده، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك فلم تجد ما تحملهم عليه الخ، وهؤلاء جماعة من الفقراء يدخلون في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد في سفر طويل كغزوة تبوك وهو فقدهم الرواحل التي تحملهم، فهو من عطف الخاص على العام. يقال: حمله على البعير أو غيره أي أركبه إياه أو أعطاه إياه ليركبه، وكان الطالب لظهر يركبه يقول لمن يطلبه منه: احملني.
ثم بين حال هؤلاء بعد جواب الرسول لهم بياناً مستأنفاً فقال:
{تولوا وأعينهم تفيض من الدمع} أي انصرفوا من مجلسك وهم في حال بكاء شديد، هاجه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلئ دمعاً، فيتدفق فائضا من جوانبها تدفقاً، حتى كأنها ذابت فصارت دمعاً، فسالت همعاً {حزنا} منهم وأسفاً.
{ألا يجدوا ما ينفقون} أي على عدم وجدانهم عندك ولا عندهم ما ينفقون ولا ما يركبون في خروجهم معك جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين. فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال: (والله لا أجد ما أحملكم عليه)، فتولوا ولهم بكاء، وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملاً. فأنزل الله عذرهم: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} الآية... وذكر البطون التي ينسبون إليها، وهنالك روايات أخرى في عددهم وبطونهم عند ابن إسحاق وغيره. وأنهم كانوا يسمون البكائين.
وهنالك رواية أخرى أنهم ما سألوه صلى الله عليه وسلم إلا الحملان على النعال، ورواية أخرى أنهم سألوه الزاد والماء، ولا مانع من وقوع كل ذلك في هذه الغزوة الكبيرة، ولكن الآية خاصة بطلاب الرواحل؛ لأنه هو المتبادر من اللفظ.
والحكمة في التعبير بالإتيان لأجل الحمل والاعتذار عنه بعدم وجدان ما يحمل عليه دونه ذكر جنسه من راحلة ودابة هي إفادة العموم فيما يحمل عليه مريد السير، فتدخل فيه مراكب هذا الزمان من مراكب النقل البرية والهوائية والبحرية، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها في كل سفر بحسبه، وفقد العذر بوجوده، فوجود الخيل والجمال والبغال لا ينفي العذر في السفر الذي يقطع في القطارات الحديدية أو السيارات أو المناطيد أو الطيارات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة. فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعاً، لأنهم لا يجدون ما ينفقون. وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه. وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول -[ص]- تختلف الروايات في تعيين أسمائهم، ولكنها تتفق على الواقعة الصحيحة.
بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزت كلمته. فلننظر أين نحن من هؤلاء. ولننظر أين روحنا من تلك العصبة. ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر. وإلا فلنسدد ولنقارب واللّه المستعان.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} لأنهم يعيشون مسؤولية الإيمان بعمق، فيحاولون بكل جهدهم أن يزيلوا الحواجز التي تمنعهم من التقدم، ويرفعوا الموانع التي تؤخرهم عن المشاركة، ولهذا فإنهم يتألّمون ويحزنون إذا لم يصلوا إلى تحقيق ذلك. إنها روحيّة الإنسان الذي يعيش الإيمان كمسؤوليّةٍ، ويحب ممارسة مسؤوليته بلهفةٍ وشوقٍ، فلا يرتاح لأيّ شيء يعطّل مسيرته في هذا الاتجاه. إنه يحاول ويحاول تذليل الصعوبات، فإذا لم يوفق في ذلك، عاش القضيّة شعوراً في العمق، يوحي لقلبه بالحزن، ولعينيه بالدموع، وهذا ما يقدّره الله لهم حقّ التقدير، ولهذا فإنه يعفيهم من أيّ شعور بالإحباط والتعقيد أمام أجواء الساحة، فلم يجعل لأحد سبيلاً عليهم من أيّة جهةٍ في موقع القيادة وفي موقع القاعدة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تشير الآية إِلى الفئة الرّابعة من المعفو عنهم وهؤلاء هم الذين حضروا بشوق عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يحملهم على الدواب للمشاركة في الجهاد، فاعتذر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه لا يملك ما يحملهم عليه، فخرجوا من عنده وعيونهم تفيض من الدمع حزناً وأسفاً على ما فاتهم، وعلى أنّهم لا يملكون ما ينفقونه في سبيل الله: (ولا على الذين إِذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون).
«تفيض» من مادة الفيضان، أي الانسكاب والتساقط بعد الامتلاء، فإنّ الإنسان إِذا أهمه أمر أو دهمته مصيبة، فإذا لم تكن شديدة اغرورقت عيناه بالدموع وامتلأت دون أن تجري، أمّا إذا وصلت إِلى مرحلة يضعف الإِنسان عن تحملها سالت دموعه.
إنّ في هذه دلالة على أنّ هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا عشاقاً ومولهين بالجهاد إِلى درجة أنّهم لما رُخص لهم في البقاء لم يكتفوا بالتأسف والهمّ لهذه الرخصة، بل إنّهم جرت دموعهم كما لو فقد إنسان أعز أصدقائه وأحبائه، وبكوا بكاءً مرّاً لهذا الحرمان.
لا شك أن الفئة الرّابعة لا تفترق عن الفئة الثّالثة المذكورة في الآية ولكنّهم لهذه الحالة الخاصّة من العشق، ولامتيازهم بها عن السابقين، ولتكريمهم جسمت الآية وضعهم بصورة مستقلة ضمن نفس الآية، وكانت خصائصهم هي:
أوّلا: إنّهم لم يقتنعوا بعدم ملكهم لمستلزمات الجهاد، فحضروا عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طمعاً في الحصول عليها، وأصروا عليه إصرارا شديداً في تهيئتها إِنّ أمكنه ذلك.
ثانياً: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما اعتذر عن تلبية طلبهم لم يكتفوا بعدم الفرحة بذلك، بل انقلبوا بهمّ وحزن فاضت دموعهم بسببه، ولهاتين الخصلتين ذكرهم الله سبحانه وتعالى مستقلا في الآية.