فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوۡكَ لِتَحۡمِلَهُمۡ قُلۡتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحۡمِلُكُمۡ عَلَيۡهِ تَوَلَّواْ وَّأَعۡيُنُهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (92)

ثم ذكر العذر الراجع إلى المال ، لا إلى البدن فقال : { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ }أي : ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد ، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج ، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم ، مقيداً بقوله : { إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وأصل النصح : إخلاص العمل من الغش ، ومنه التوبة النصوح . قال نفطويه : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول ، أي أخلصه له . والنصح لله : الإيمان به ، والعمل بشريعته . وترك ما يخالفها كائناً ما كان ، ويدخل تحته دخولاً أوّلياً نصح عباده . ومحبة المجاهدين في سبيله ، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد . وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه ؛ ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم : التصديق بنبوته وبما جاء به ، وطاعته في كل ما يأمر به ، أو ينهي عنه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، ومحبته وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة . وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة ثلاثاً " ، قالوا : لمن ؟ قال : «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » وجملة : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } مقرّرة لمضمون ما سبق : أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل : أي طريق عقاب ومؤاخذة . ومن مزيدة للتأكيد ، وعلى هذا فيكون لفظ { المحسنين } موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً . أو يكون المراد : ما على جنس المحسنين من سبيل ، وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم ، فتكون الجملة تعليلية . وجملة : { والله غَفُور رحِيم } تذييللية . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ، وقوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَج وَلاَ عَلَى المريض حَرَج } .

وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين ، لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه ، مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه ، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد ، وأصله في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه »

قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ فقال : «حبسهم العذر » وأخرجه أحمد ، ومسلم ، من حديث جابر .

ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } والعطف على جملة { مَا عَلَى المحسنين } أي : ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل . ويجوز أن تكون عطفاً على الضعفاء : أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج . والمعنى : أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو ، فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك . قيل : وجملة { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } في محل نصب على الحال من الكاف في { أتوك } بإضمار قد : أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد . وقيل : هي بدل من أتوك . وقيل : جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، والأوّل : أولى . وقوله : { تَوَلَّوْاْ } جواب «إذا » ، وجملة : { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } في محل نصب على الحال : أي تولوا عنك لما قلت لهم : لا أجد ما أحملكم عليه ، حال كونهم باكين ، و { حَزَناً } منصوب على المصدرية ، أو على العلية ، أو الحالية ، و { أَن لا يَجِدُواْ } مفعول له ، وناصبه { حَزَناً } وقال الفراء : أن لا بمعنى ليس : أي حزناً أن ليس يجدوا . وقيل المعنى : حزناً على أن لا يجدوا . وقيل المعنى : حزناً أنهم لا يجدون ما ينفقون ، لا عند أنفسهم ولا عندك .

/خ93