اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوۡكَ لِتَحۡمِلَهُمۡ قُلۡتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحۡمِلُكُمۡ عَلَيۡهِ تَوَلَّواْ وَّأَعۡيُنُهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (92)

قوله : { وَلاَ عَلَى الذين } . فيه أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفاً على " الضُّعفاء " ، أي : ليس على الضعفاءِ ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ ، فيكونون داخلين في خبر " ليس " مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها ، وهو " حَرَجٌ " .

الثاني : أن يكون معطوفاً على " المُحْسنينَ " فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله : " مِنَ سبيلٍ " ، فإنَّ " مِنْ سبيلٍ " يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون اسم " ما " الحجازية ، و " مِنْ " مزيدةٌ في الوجهين .

الثالث : أن يكون " ولا علَى الَّذِينَ " خبراً لمبتدأ محذوف ، تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوكَ . . إلى آخر الصلة ، حرجٌ ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه ، قاله أبُو البقاءِ . ولا حاجةَ إليه ، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى . وهذا الموصولُ ، أعني قوله : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ } ، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله : { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وألا يكونوا مندرجين ، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً . وقرأ معقل{[18043]} بنُ هارون " لنَحْملَهُمْ " بنون العظمة ، وفيها إشكالٌ ، إذ كان مقتضى التركيب : قلت : لا أجدُ ما يحملكم عليه الله .

قوله : " قُلْتَ " فيه أربعة أوجهٍ ، أحدها : أنَّهُ جواب " إذا " الشَّرطيَّة ، و " إذَا " وجوابها في موضع الصِّلةِ ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية ، وعلى هذا ؛ فيكونُ قوله : " تولَّوا " جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال : ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب ؟ فأجيب بقوله : " تَوَلَّوْا " .

الثاني : أنَّه في موضع نصب على الحال ، من " أتوكَ " ، أي : إذَا أتوكَ ، وأنت قائلٌ : لا أجدُ ما أحملكم عليه ، و " قَدْ " مقدرة ، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً ، كقوله : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] في أحد أوجهه كما تقدَّم ، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ .

الثالث : أن يكون معطوفاً على الشَّرط ؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف ، والتقدير : وقلت ، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني ، وتبعه ابنُ عطيَّة ، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي : فقلت .

الرابع : أن يكون مستأنفاً . قال الزمخشريُّ " فإن قلت : هل يجُوزُ أن يكون قوله : " قلت لا أجدُ " استئنافاً مثله ؟ - يعني مثل : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } [ التوبة : 93 ] - كأنَّه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا ، فقيل : ما لهُم تولَّوا باكينَ ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء ، كالاعتراض ؟ قلتُ : نعم ، ويحسنُ " انتهى .

قال أبُو حيَّان " ولا يجوزُ ، ولا يحسن في كلام العربِ ، فكيف في كلام الله ؟ وهو فهم أعجمي " قال شهابُ الدين : وما أدري ما سببُ منعه ، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى ؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عليه الصلاة والسلام – ليحملهم ، بل على قوله لهم : " لا أجد ما أحملكم " وإذا كان كذلك فقوله –عليه الصلاة والسلام- لهم ذلك سببٌ في بكائهم ؛ فحسن أن يجعل قوله : { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ } جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم ، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في " قُلْتَ " يكون جواب الشَّرط قوله : " تولَّوا " ، وقوله " لِتحْمِلهُمْ " علة ل " أتَوْكَ " . وقوله : " لا أجدُ " هي المتعديةُ لواحدٍ ؛ لأنَّها من " الوُجْد " ، و " مَا " يجوز أن تكون موصولةً ، أو موصوفةً .

فصل

قال أبُو العباس المقرىء : ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى الانصراف ، قال تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } [ التوبة : 92 ] ومثله قوله تعالى { ثُمَّ تولى إِلَى الظل } [ القصص : 24 ] أي : انصرف .

الثاني : بمعنى : " أبَى " ، قال تعالى { فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم } [ المائدة : 49 ] أي : أبَوْا أن يؤمنوا ؛ ومثله قوله تعالى { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } [ النساء : 89 ] .

الثالث : بمعنى : " أعرض " قال تعالى { وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [ النساء : 80 ] .

الرابع : الإعراض عن الإقبال ، قال تعالى { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } [ الأنفال : 15 ] .

قوله : { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " تولَّوا " . قال الزمخشريُّ " تفيضُ من الدَّمع ، كقولك : تفيض دمعاً " . وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله { ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } [ المائدة : 83 ] وأنَّهُ جعل " من الدَّمع " تمييزاً ، و " مِنْ " مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك .

قوله : " حَزَناً " في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، والعاملُ فيه " تَفِيضُ " قاله أبو حيان . لا يقال : إنَّ الفاعل هنا قد اختلف ، فإنَّ الفيض مسند للأعين ، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين ، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف ؛ لأنَّا نقول : إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً ، يقال : عين حزينةٌ وسخينةٌ ، وعين مسرورةٌ وقريرة ، في ضد ذلك . ويجوز أن يكون النَّاصب له " تولَّوا " ، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً .

الثاني : أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : تولَّوا حزينين ، أو تفيض أعينهم حزينةً ، على ما تقدَّم من المجاز .

الثالث : أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه ، أي : يحزنون حزناً ، قاله أبو البقاء . وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال ، إمَّا من فاعل " تولَّوا " ، وإمَّا من فاعل " تَفِيضُ " .

قوله : " أَلاَّ يَجِدُوا " فيه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه " حزناً " إن أعربناه مفعولاً له ، أو حالاً . وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا ؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله . وعلى القول بأنَّ " حَزَناً " مفعول من أجله ، يكون " ألاَّ يَجِدُوا " علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن ، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة ، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] .

الثاني : أنه متعلق ب " تَفِيضُ " . قال أبو حيان{[18044]} : ولا يجوز ذلك على إعرابه " حَزَناً " مفعولاً له والعاملُ فيه " تفيضُ " ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ ، أو البدلِ .

فصل

قال المفسِّرون : هم سبعة نفر سموا البكائين ، معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وعلية بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة ، وعبد الله بن معقل المزني ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : إنَّ الله ندبنا للخروج معك ، فاحملنا{[18045]} . واختلفوا في قوله " لِتحْمِلهُم " قال ابنُ عبَّاس : سألوه أن يحملهم سألوه أن يحملهم على الدواب{[18046]} ، وقيل : سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

" لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ " فتولَّوا وهم يبكُون وقال الحسنُ : " نزلت في أبي موسى الأشعري ، وأصحابه ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه ، ووافق ذلك منه غضباً فقال : " والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ " فتولَّوا يبكون ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذوداً . فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله ؟ فقال : " أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ فأرَى غيرَها خيراً منها ، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني " {[18047]} .


[18043]:ينظر: البحر المحيط 5/88، الدر المصون 3/492.
[18044]:ينظر: البحر المحيط 5/89.
[18045]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/447) وذكره البغوي في "تفسيره" (2/319).
[18046]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/319).
[18047]:أخرجه بهذا اللفظ البخاري (11/517) كتاب الأيمان والنذور باب قوله تعالى: لا يؤاخذكم..... حديث (6623) ومسلم (3/1268) كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يمينا حديث (7/1649) وأحمد (4/398) والطيالسي (1/247-منحة) حديث (1217) وأبو داود (3276) والنسائي (7/1009) وابن ماجه (1/681) رقم (2107) والطبراني في "الصغير" (1/56-57) والبيهقي (10/51) من حديث أبي موسى. وللحديث شواهد: عن عدي بن حاتم: أخرجه مسلم (3/1272-1273) كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يمينا...حديث (16، 18/1601) وأحمد (4/256، 257، 258) والطيالسي (1218-منحة) والدارمي (2/186) والنسائي (7/10-11) وابن ماجه(1/681) رقم (2108) والحاكم (4/300-301) والبيهقي (10/32) وعن عبد الرحمن بن سمرة: أخرجه البخاري (11/516-517) كتاب الأيمان والنذور حديث (6622) ومسلم (3/1273-1274) كتاب الأيمان حديث (9/1652) وأحمد (5/62) والطيالسي (1219-منحة) والدارمي (2/186) والنسائي (7/12) وأبو داود (3277) وابن الجارود (929) والبيهقي (10/31) والخطيب (2/400). وعن عبد الله بن عمرو: أخرجه أحمد (2/212) وأبو داود (3274) وابن ماجه (1/682). وعن مالك الجشمي: أخرجه النسائي (7/11) وابن ماجه (1/681) رقم (2109). وعن عدي بن حاتم: أخرجه مسلم (3/1273) كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يمينا حديث (17/1651). ومن حديث عائشة: أخرجه الحاكم (4/301) وصححه. ومن حديث أبي الدرداء: أخرجه الحاكم (4/301) وصححه والبيهقي (10/52).