فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله ، مع علمهم بذلك ، ولهذا قال تعالى { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر والمعاصي ، لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة ، فالموت أكره شيء إليهم ، وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس ، حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب .
ثم أخبر - سبحانه - بأن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبداً بسبب ما فعلوا من شرور فقال تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } .
أي : لا يتمنى اليهود الموت أبداً بسبب ما قدمت أيديهم من آثام ، والله - عز وجل - لا تخفى عليه خافية من سيئاتهم واعتداءاتهم بل هو سيسجلها عليهم ، ويجازيهم عليها الجزاء الذي يستحقونه ، والآية الكريمة خبر من الله - تعالى - عن اليهود بأنهم يكرهون الموت ، ويمتنعون عن الإِجابة إلى ما دعوا إليه من تمنيه ، لعلمهم بأنهم إن فعلوا فالموت نازل بهم ، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم خبراً إلأا كان حقاً كما أخبر فهم يحذرون أن يتمنوا الموت ، خوفاً من أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب .
وقد صح من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال : " لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه " .
وقال ابن جرير في تفسيره : " وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ؛ ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " قال حدثنا بذلك أبو كريب ، حدثنا زكريا بن عيد ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الإِمام ابن كثير : ورواه الإِمام أحمد عن اسماعيل بن يزيد الرقي نحدثنا فرات عن عبد الكريم به " .
وقال صاحب الكشاف : قوله : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به ، كقوله تعالى : ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) فإن قلت : ما أدراك أنهم لم يتمنوا الموت : قلت لو تمنوا لنقل ذلك عنهم كما نقلت سائر الحوادث ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإِسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل عنه ذلك " .
ويكفى في تحقيق هذه المعجزة ، ألا يصدر تمنى الموت عن اليهود الذين تحداهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهم الذين كانوا يضعون العراقيل في طريق دعوته ، ويصرون على جحود نبوته ؛ فلا يقدح في هذه المعجزة أن ينطق يهودي بعد العهد النبوي بتمنى الموت وهو حريص على الحياة ، لأن المعنيين بالتحدي هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي .
وقوله تعالى : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وارد مورد التهديد والوعيد لهم وكان اليهود ظالمين بسبب ما قدمت أيديهم وبسبب كونهم قد كذبوا على الله في دعواهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان منهم .
ويعقب على هذا التحدي بتقرير أنهم لن يقبلوا المباهلة ، ولن يطلبوا الموت . لأنهم يعلمون أنهم
كاذبون ؛ ويخشون أن يستجيب الله فيأخذهم . وهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة . وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه ، وخسروا الآخرة بالعمل السيىء الذي قدموه . . ومن ثم فإنهم لن يقبلوا التحدي . فهم أحرص الناس على حياة . وهم والمشركون في هذا سواء :
( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم . والله عليم بالظالمين . ولتجدنهم أحرص الناس على حياة . ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير بما يعملون ) .
لن يتمنوه . لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب ، ولا يؤمنهم من عقاب . إنه مدخر لهم هناك ، والله عليم بالظالمين وما كانوا يعملون .
{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }( 95 )
ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه ، و { أبداً } ظرف زمان وإذا كانت «ما » بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره قدمته ، وإذا كانت مع قدمت بمثابة المصدر غنيت عن الضمير ، هذا قول سيبويه ، والأخفش يرى الضمير في المصدرية ، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر إنما هو بيديه ، فحمل جميع الأشياء على ذلك .
وقوله تعالى : { والله عليم بالظالمين } ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد( {[975]} ) ، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم ، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد .
وجملة { ولن يتمنوه أبداً } إلى آخره معترضة بين جملة { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } وبين جملة { قل من كان عدواً لجبريل } [ البقرة : 97 ] والكلام موجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إعلاماً لهم ليزدادوا يقيناً وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم .
قوله : { بما قدمت أيديهم } يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] وقولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] ثم يعترفون بأنهم اجترأوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياماً معدودة ولذلك يخافون الموت فراراً من العذاب .
والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام ، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازاً كما في قوله :
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل . وقيل : أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدي عظيم .
وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي .
وقوله : { والله عليم بالظالمين } خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير :
وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبيء صلى الله عليه وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية . ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله : { إلا أماني } [ البقرة : 78 ] أن الأمنية ما يقدر في القلب . وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية . وهي أيضاً من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية ، ويفيد بذلك إعجازاً عاماً على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله . على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهودياً تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة . وجملة { والله عليم بالظالمين } في موضع الحال من ضمير الرفع في { يتمنوه } أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت ، والمراد بالظالمين اليهود فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم .