قوله تعالى : { حنفاء لله } مخلصين له ، { غير مشركين به } قال قتادة : كانوا في الشرك يحجون ، ويحرمون البنات والأمهات والأخوات ، وكانوا يسمون حنفاء ، فنزلت : { حنفاء لله } غير مشركين به أي : حجاجاً لله مسلمين موحدين ، يعني : من أشرك لا يكون حنيفاً . { ومن يشرك بالله فكأنما خر } أي : سقط ، { من السماء } إلى الأرض ، { فتخطفه الطير } أي : تستلبه الطير وتذهب به ، والخطف والاختطاف : تناول الشيء بسرعة . وقرأ أهل المدينة : فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء ، أي : يتخطفه ، { أو تهوي به الريح } أي : تميل وتذهب به ، { في مكان سحيق } أي : بعيد ، معناه : إن بعد من أشرك من الحق كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير ، أو هوت به الريح ، فلا يصل بحال . وقيل : شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع بحيث تسقطه الريح ، فهو هالك لا محالة إما باستلاب الطير لحمه وإما بسقوطه إلى المكان السحيق ، وقال الحسن : شبه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها .
أمرهم أن يكونوا { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } أي : مقبلين عليه وعلى عبادته ، معرضين عما سواه .
{ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ } فمثله { فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي : سقط منها { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } بسرعة { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي : بعيد ، كذلك المشرك ، فالإيمان بمنزلة السماء ، محفوظة مرفوعة .
ومن ترك الإيمان ، بمنزلة الساقط من السماء ، عرضة للآفات والبليات ، فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء ، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب ، ومزقوه ، وأذهبوا عليه دينه ودنياه .
وجملة { حُنَفَآءَ للَّهِ } وجملة { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } حالان مؤكدتان لما قبلهما من وجوب اجتناب عبادة الأوثان ، واجتناب قول الزور .
أى : اجتنبوا ما أمرناكم باجتنابه حال كونكم ثابتين على الدين الحق ، مخلصين لله العبادة .
ثم صور - سبحانه - حال من يشرك بالله تصويرا تنخلع له القلوب ، ويحمل كل عاقل على اجتناب هذا الرجس فقال : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } .
أى : ومن يشرك بالله - تعالى - فى عبادته ، ومات على ذلك ، فكأنما سقط من السماء إلى الأرض ، فاختطفته جوارح الطير بسرعة فمزقت أوصاله ، أو تسقطع الريح فى مكان بعيد اشد البعد بحيث لا يعثر له على أثر .
والمقصود من هذه الجملة تقبيح حال الشرك والمشركين ، وبيان أن الوقوع فى الشرك يؤدى إلى الهلاك الذى لا نجاة معه بحال ، لأن من يسقط من السماء فتتمزق أوصاله ، وتتخطفه الطير أو تلقى به الريح فى مكان بعيد لا يطمع له فى نجاة ، بل هو هالك لا محالة .
فاجملة الكريمة مقررة لوجوب اجتناب الشرك بأبلغ صورة .
قال صاحب الكشاف : يجوز فى هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق ، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعد نهاية ، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا - أى قطعا - فى حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به فى بعض المطاوح - أى المقاذف - البعيدة .
وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان فى علوه بالسماء ، والذى ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء التى تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذى يطوح به فى وادى الضلالة ، بالريح التى تهوى بما عصفت به فى بعض المهاوى المتلفة .
ويغلظ النص من جريمة قول الزور إذ يقرنها إلى الشرك . . وهكذا روى الإمام أحمد - بإسناده - عن فاتك الأسدي قال : صلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] - الصبح . فلما انصرف قام قائما فقال : عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل ثم تلا هذه الآية . .
إنما يريد الله من الناس أن يميلوا عن الشرك كله ، وأن يجتنبوا الزور كله ، وأن يستقيموا على التوحيد لصادق الخالص . ( حنفاء لله غير مشركين به ) . . ثم يرسم النص مشهدا عنيفا يصور حال من تزل قدماه عن أفق التوحيد ، فيهوي إلى درك الشرك . فإذا هو ضائع ذاهب بددا كأن لم يكن من قبل أبدا :
( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) . .
إنه مشهد الهوي من شاهق ( فكأنما خر من السماء ) . وفي مثل لمح البصر يتمزق ( فتخطفه الطير )أو تقذف به الريح بعيدا عن الأنظار : ( أو تهوي به الريح في مكان سحيق )في هوة ليس لها قرار !
والملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ " بالفاء " وفي المنظر بسرعة الاختفاء . . على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير .
وهي صورة صادقة لحال من يشرك بالله ، فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء . إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها . قاعدة التوحيد . ويفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه ؛ فتتخطفه الأهواء تخطف الجوارح ، وتتقاذفه الأوهام تقاذف الرياح . وهو لا يمسك بالعروة الوثقى ، ولا يستقر على القاعدة الثابتة ، التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش فيه .
وقوله : { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } أي : مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق ؛ ولهذا قال { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ }
ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي : سقط منها ، { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } ، أي : تقطعه الطيور في الهواء ، { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه ؛ ولهذا جاء في حديث البراء : " إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت ، وصعدوا بروحه إلى السماء ، فلا تفتح له أبواب السماء ، بل تطرح روحه طرحا من هناك " . ثم قرأ هذه الآية ، وقد تقدم الحديث في سورة " إبراهيم " {[20182]} بحروفه وألفاظه وطرقه .
وقد ضرب [ الله ]{[20183]} تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة " الأنعام " ، وهو قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ]{[20184]} } [ الأنعام : 71 ] .
و { حنفاء } ، معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل ، و { حنفاء } نصب على الحال ، وقال قوم { حنفاء } معناه حجاجاً ع وهذا تخصيص لا حجة معه ، و { غير مشركين } ، ويجوز أن يكون حالاً أخرى ، ويجوز أن يكون صفة لقول { حنفاء } ثم ضرب تعالى مثلاً للمشرك بالله أظهره في غاية السقوط ويحتمل الهول والانبتات من النجاة ، بخلاف ما ضرب للمؤمن في قوله { فمن كفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }{[8373]} [ البقرة : 256 ] ومنه قول علي رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخر من السماء إلى الأرض أهون علي من أن أكذب عليه ، الحديث . وقرأ نافع وحده «فتخطّفه الطير » بفتح الخاء وشد الطاء على حذف تاء التفعل وقرأ الباقون «فتخْطفه » بسكون الخاء وتخفيف الطاء ، وقرأ الحسن فيما روي عنه «فَتِخِطَّفه » بكسر التاء والخاء وفتح الطاء مشددة ، وقرأ أيضاً الحسن وأبو رجاء بفتح التاء وكسر الخاء والطاء وشدها ، وقرأ الأعمش «من السماء تخطفه » بغير فاء وعلى نحو قراءة الجماعة وعطف المستقبل على الماضي لأنه بتقدير فهو تخطفه الطير ، وقرأ أبو جعفر ، «الرياح » و «السحيق » البعيد ومنه قولهم أسحقه الله ومنه قوله عليه السلام «فسحقاً فسحقاً »{[8374]} ومنه نخلة سحوق للبعيدة في السماء .
{ حنفاء لله } حال من ضمير { اجتنبوا } أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله ، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة ، أي تكونوا على ملّة إبراهيم حقاً ، ولذلك زاد معنى { حنفاء } بياناً بقوله { غير مشركين به } . وهذا كقوله : { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين } [ النحل : 120 ] .
والباء في قوله { مشركين به } للمصاحبة والمعية ، أي غير مشركين معه غيره .
{ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ }
أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركاً تمثيلاً بديعاً إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات .
قال في « الكشاف » : « يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرّق بأن صُور حال المشرك بصورة حال مَن خرّ من السماء فاختطفَتْه الطيرُ فتفرّق مِزعاً في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة ، وإن كان مفرقاً فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة » أ ه .
يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها ، فتوزعته أنواع المهالك ، ولا يخفى عليك أنّ في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها .
والسحيق : البعيد فلا نجاة لمن حل فيه .
وقوله : { أو تهوي به الريح } تخيير في نتيجة التشبيه ، كقوله : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] . أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان : قسم شِركه ذبذبة وشكّ ، فهذا مشبّه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلاّ انتهبها منه آخر ، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه . وقسم مصمّم على الكفر مستقر فيه ، فهو مشبّه بمن ألقته الريح في واد سحيق ، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير ، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول .
والخُرور : السقوط . وتقدم في قوله : { فخر عليهم السقف من فوقهم } في [ سورة النحل : 26 ] .
و { تخطّفُه } مضاعف خطف للمبالغة ، الخطف والخطف : أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة . والهُوِيّ : نزول شيء من علو إلى الأرض . والباء في { تهوي به } للتعدية مثلها في : ذهب به .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر { فتَخَطّفه } بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة مضارع خطّف المضاعف . وقرأه الجمهور بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة مضارع خطف المجرّد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{حنفاء لله} يعني: مخلصين لله بالتوحيد {غير مشركين به} ثم عظم الشرك، فقال: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير} يعني: فتذهب به الطير النسور {أو تهوي به الريح في مكان سحيق}، يعني: بعيدا، فهذا مثل الشرك في البعد من الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: اجتنبوا أيها الناس عبادة الأوثان، وقول الشرك، مستقيمين لله على إخلاص التوحيد له، وإفراد الطاعة والعبادة له خالصا دون الأوثان والأصنام، غير مشركين به شيئا من دونه فإنه من يُشرك بالله شيئا من دونه فمثله في بعده من الهدى وإصابة الحقّ وهلاكه وذهابه عن ربه، مَثل من خرّ من السماء فتخطفه الطير فهلك، أو هوت به الريح في مكان سحيق، يعني من بعيد... يقول: فهكذا مَثل المشرك بالله في بُعده من ربه ومن إصابة الحقّ، كبُعد هذا الواقع من السماء إلى الأرض، أو كهلاك من اختطفته الطير منهم في الهواء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح مكان سحيق} يحتمل ضرب مثل من أشرك بالله بالساقط من السماء وخطف الطير إياه وهوي الريح به في مكان سحيق وجوها:
أحدها: ما وصف، وضرب مثله بشيء لا قرار له، ولا ثبات، نحو ما قال: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} [إبراهيم: 26] ونحو ما قال: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء} الآية [النور: 39] ضرب مثل الكفر بشيء، لا قرار له، ولا ثبات. فعلى ذلك ضرب مثله بالساقط: {من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح} لا يدري أين هو؟ ولا أين يطلب إن أراد طلبه؟ ولا يظفر به. فعلى ذلك الكافر.
والثاني: ما ضرب مثله بالساقط من السماء، وهي أبعد البقاع في الأوهام، لا ينتفع من سقط منها ولا بشيء من نفسه، ولا تبقى نفسه. فعلى ذلك الكافر لا ينتفع بشيء من محاسنه، ولا تبقى نفسه، ينتفع بها، لبعده عن دين الله.
والثالث: ما ضرب مثله بالساقط من السماء إثر سقوطه منها في نفسه وفي جميع جوارحه وظهور ذلك فيه حتى لا يرجى بُرْؤُهُ وصحته. فعلى ذلك الكافر تظهر آثاره الكفر في نفسه وجوارحه لبعده عن دين الله، والله أعلم.
وقال بعضهم: هذا مثل ضربه الله لمن أشرك به في هلاكه وبعده من الهدى. والسحيق: البعيد. وهو قريب مما ذكرنا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
والخطف والاختطاف تناول الشيء بسُرعة. قال أهل المعاني: إنما شبّه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة. وقال الحسن: شبّه أعمال الكفّار بهذه الحال في أُنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وأصل الحنف الاستقامة. والاختطاف والاستلاب واحد. والمعنى أن من أشرك بالله غيره كان هالكا بمنزلة من زل من السماء فإنه لايكون إلا هالكا.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
وعن مجاهد: {حنفاء}، قال: مسلمين متبعين، وهذا كله يدل على أن الحنيفية: الإسلام. ويشهد لذلك قول الله- عز وجل-: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} والحنيف اليوم: المسلم
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحنيف المائلُ إلى الحق عن الباطل في القلبِ والنَّفْسِ، في الجهر وفي السِّرِّ، في الأفعال وفي الأحوال وفي الأقوال.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعاً في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقاً، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوّح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{حنفاء لله} الذي له الكمال كله، فلا ميل في شيء من فعله، وإنما كانا كذلك مع اجتماعهما في مطلق الميل، لأن الزور تدور مادته على القوة والوعورة، والحنف -كما مضى في البقرة- على الرقة والسهولة، فكان ذو الزور معرضاً عن الدليل بما فيه من الكثافة والحنيف مقبلاً على الدليل بما له من اللطافة.
ولما أفهم ذلك التوحيد، أكده بقوله: {غير مشركين به} أي شيئاً من إشراك، بل مخلصين له الدين، ودل على عظمة التوحيد وعلوه، وفظاعة الشرك وسفوله، بقوله زاجراً عنه عاطفاً على ما تقديره: فمن امتثل ذلك أعلاه اعتداله إلى الرفيق الأعلى: {ومن يشرك} أي يوقع شيئاً من الشرك {بالله} أي الذي له العظمة كلها، لشيء من الأشياء في وقت من الأوقات {فكأنما خرّ من السماء} لعلو ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك.
ولما كان الساقط من هذا العلو متقطعاً لا محالة إما بسباع الطير أو بالوقوع على جلد، عبر عن ذلك بقوله: {فتخطفه الطير} أي قطعاً بينها، وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض {أو تهوي به الريح} أي حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه {في مكان} من الأرض {سحيق} أي بعيد في السفول، فيتقطع حال وصوله إلى الأرض بقوة السقطة وشدة الضغطة لبعد المحل الذي خر منه وزل عنه، فالآية من الاحتباك: خطف الطير الملزوم للتقطع أولاً دال على حذف التقطع ثانياً، والمكان السحيق الملزوم لبلوغ الأرض ثانياً دليل على حذف ضده أولاً...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فالإيمان بمنزلة السماء، محفوظة مرفوعة. ومن ترك الإيمان، بمنزلة الساقط من السماء، عرضة للآفات والبليات، فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب، ومزقوه، وأذهبوا عليه دينه ودنياه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... إنما يريد الله من الناس أن يميلوا عن الشرك كله، وأن يجتنبوا الزور كله، وأن يستقيموا على التوحيد الصادق الخالص. (حنفاء لله غير مشركين به).. ثم يرسم النص مشهدا عنيفا يصور حال من تزل قدماه عن أفق التوحيد، فيهوي إلى درك الشرك. فإذا هو ضائع ذاهب بددا كأن لم يكن من قبل أبدا:
(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)..
إنه مشهد الهوي من شاهق (فكأنما خر من السماء). وفي مثل لمح البصر يتمزق (فتخطفه الطير) أو تقذف به الريح بعيدا عن الأنظار: (أو تهوي به الريح في مكان سحيق) في هوة ليس لها قرار!
والملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ "بالفاء "وفي المنظر بسرعة الاختفاء.. على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير.
وهي صورة صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء. إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها. قاعدة التوحيد. ويفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه؛ فتتخطفه الأهواء تخطف الجوارح، وتتقاذفه الأوهام تقاذف الرياح. وهو لا يمسك بالعروة الوثقى، ولا يستقر على القاعدة الثابتة، التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش فيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركاً تمثيلاً بديعاً إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات...
يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها، فتوزعته أنواع المهالك...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فقد اتّخذ الإسلام موقف التوحيد في مواجهة الشرك، وموقف حق في مواجهة الباطل، وكان هدف كل عباداته ومعاملاته ومفاهيمه وقوام طريقته في إدارة العلاقات وأسلوبه في الحركة ومنهجه في الحياة، الوصول إلى هذين الأمرين، باعتبار أنهما يمثلان الخط العريض لحركة الإسلام في الفكر والتصور والعمل، وهذا ما جعل الآية تؤكد على اجتناب الرجس من الأوثان وقول الزور، في سياق الحديث عن العبادة في الحج، لأن الحج موقفٌ لتأكيد التوحيد في العقيدة والعبادة وكلمةٌ لترسيخ الحق في أعماق الذات...
وهذا ما يجعل من الشرك سقوطاً فظيعاً من الأعالي الممتدّة في رحاب الله، لأنه يرمي الإنسان في حضيض الوثنية المحدودة، التي تحجز الذات في حدود ضيقة، وتمنع الفكر من الارتفاع والسموّ، وتنصب له حواجز، فلا يتحرك إلا في أحاسيس اللذّة والشهوة، وترفع له أكثر من جدارٍ يفقد أمامه فرصة الامتداد في كل مجالات الحياة، وتقوده إلى الاختناق داخل الزوايا المظلمة التي لا يصلها النور القادم من روح الله، لأن الصنم يمثل الجمود والتحجّر الكامل ويفتقر إلى المعنى، كونه شيئاً في المادة العمياء الميتة، إذ الموت هو فقدان الحياة، وليس عدماً كان بداية حياة...