الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيۡرَ مُشۡرِكِينَ بِهِۦۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ} (31)

قوله : { حُنَفَآءَ } : حالٌ مِنْ فاعلِ " اجْتَنِبوا " . وكذلك { غَيْرَ مُشْرِكِينَ } وهي حالٌ مؤكدة ، إذ يلزَمُ من كونِهم حُنَفاءَ عدمُ الإِشراك .

قوله : { فَتَخْطَفُهُ } قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً . وأصلُها تَخْتَطِفُه فأدغم . وباقي السبعةِ " فَتَخْطَفُه " بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء . وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد . ورُوِي عن الحسن أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ . ورُوِي عن الأعمش كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء : " تَخْطَفُه " . وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ } [ البقرة : 20 ] فلا أُعيدها .

وقرأ أبو جعفر " الرياحُ " جمعاً . وقولِه " خَرَّ " في معنى يَخِرُّ ؛ ولذلك عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو " فَتَخْطَفُهُ " ، ويجوز أن يكون على بابه ، ولا يكونُ " فَتَخْطَفُه " عطفاً عليه ، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فهو يَخْطَفُه .

قال الزمخشري : " ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق . فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : مَنْ أشرك بالله فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [ هلاكٌ ] : بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه الطيرُ ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها ، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في بعض المطاوحِ البعيدةِ . وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه بالسماءَ ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك بالله ، بالساقط من السماء ، والأهواءَ التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ " . قلت : وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها في غاية/ البلاغة .

والأَوْثان : جمع وَثَن . والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ وخَشَبٍ . ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب . " عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : أَلْقِ هذا الوثنَ عنك " وقال الأعشى :

يطوفُ العبادُ بأبوابِه *** كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ

واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي : أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ . وأُنشد لرؤبة :

على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ ***

أي : المقيمين على العهد . وقد تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم .

والسَّحيقُ : البعيدُ . ومنه سَحَقَه اللهُ أي : أبعده . وقوله عليه السلام : " فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً " أي : بُعْداً بُعْداً . والنَّخْلة السَّحُوقُ : الممتدةُ في السماء ، من ذلك .