قوله تعالى : { أم يقولون افتراه } محمد من قبل نفسه ، فقال الله عز وجل : { قل } يا محمد . { إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا } لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي ، فكيف أفتري على الله من أجلكم ، { هو أعلم } الله أعلم . { بما تفيضون فيه } تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه إنه سحر . { كفى به شهيداً بيني وبينكم } أن القرآن جاء من عنده ، { وهو الغفور الرحيم } في تأخير العذاب عنكم ، قال الزجاج : هذا دعاء لهم إلى التوبة ، معناه : إن الله عز وجل غفور لمن تاب منكم رحيم به .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه فليس هو من عند الله .
{ قُلْ } لهم : { إِنِ افْتَرَيْتُهُ } فالله علي قادر وبما تفيضون فيه عالم ، فكيف لم يعاقبني على افترائي الذي زعمتم ؟
فهل { تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } إن أرادني الله بضر أو أرادني برحمة { كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلو كنت متقولا عليه لأخذ مني باليمين ولعاقبني عقابا يراه كل أحد لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولا ، ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته فقال : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : فتوبوا إليه وأقلعوا عما أنتم فيه يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم فيوفقكم للخير ويثيبكم جزيل الأجر .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من أكاذيبهم فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه . . . } و " أم " هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة ، وتفيد الإِضراب والانتقال من حكاية أقوالهم الباطلة السابقة . إلى أقوال أخرى أشد منها بطلانا وكذبا . والاستفهام للإِنكار والتعجب من حالهم .
والافتراء : أشنع الكذب . أى : بل أيقول هؤلاء الكافرون لك - أيها الرسول الكريم - إنك إفتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك ؟
ثم لقن الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم الرد الذى يخرسهم فقال { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - فى الرد على زعمهم أنك افتريت هذا القرآن : إن كنت على سبيل الفرض والتقدير قد افتريته من عند نفسى ، عاقبنى ربى ، ولا تستطيعون أنتم أو غيركم أن تمنعوا عنى شيئا من عذابه وعقابه ، وما دام الأمر كذلك فكيف أفتريه ، وأنا أعلم علم اليقين أن افتراء شئ منه يؤدى إلى عقابى ؟
فجواب " إن " فى قوله : { إِنِ افتريته } محذوف . وتقديره : عاجلنى بالعقوبة ، وقوله : { فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً } قام مقامه .
قال - تعالى - : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } وقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أى : الله - تعالى - الذى زعمتم أنى أفترى عليه الكذب ، هو أعلم منى ومنكم ومن كل المخلوقات ، بما تندفعون فيه من القدح فى آياته ، والإِعراض عن دعوته ، وسيجازيكم على ذلك بما تستحقونه من عقاب .
فقوله : { تُفِيضُونَ } من الإِفاضة ، وهى الأخذ فى الشئ باندفاع وعنف ، وأصله من فاض الإِناء ، إذا سال بشدة .
وقوله - سبحانه - : { كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم } ترهيب لهم من الإِنسياق فى كفرهم ، وترغيب لهم فى الدخول فى الإِيمان لينالوا مغفرة الله - تعالى - ورحمته .
أى : كفى بشهادة الله - تعالى - بينى وبينكم شهادة ، فهو الذى يعلم أنى صادق فيما أبلغه عنه ، ويعلم أنكم الكاذبون فيما تزعمونه ، وهو - سبحانه - لاواسع المغفرة والرحمة ، لمن تاب إليه وأناب .
وهكذا يبدأ الهجوم منذ البدء على تقولهم الظالم وادعائهم القبيح ، الذي لا يستند إلى شبهة ولا ظل من دليل . ثم يرتقي في إنكار مقولتهم الأخرى . . ( افتراه ) . . فلا يسوقها في صيغة الخبر بل في صيغة الاستفهام . كأن هذا القول لا يمكن أن يقال ، وبعيد أن يقال :
فيبلغ بهم التطاول أن يقولوا هذه المقولة التي لا تخطر على بال ? !
ويلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يرد عليهم بأدب النبوة ، الذي ينم عن حقيقة شعوره بربه ، وشعوره بوظيفته ، وشعوره بحقيقة القوى والقيم في هذا الوجود كله :
( قل : إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم . وهو الغفور الرحيم ) . .
قل لهم : كيف أفتريه ? ولحساب من أفتريه ? ولأي هدف أفتريه ? أأفتريه لتؤمنوا بي وتتبعوني ? ولكن : ( إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا ) . . وهو آخذني بما افتريت . فماذا يجديني أن تكونوا معي وأن تتبعوني . وأنتم أعجز من أن تحموني من الله حين يأخذني بافترائي ، وأضعف من أن تنصروني ? !
وهو الرد اللائق بنبي ، يتلقى من ربه ، ولا يرى في الوجود غيره ، ولا يعرف قوة غير قوته ، وهو رد كذلك منطقي يدركه المخاطبون به لو حكموا عقولهم فيه . يجيبهم به ، ثم يترك أمرهم لله : ( هو أعلم بما تفيضون فيه ) . . من القول والفعل . وهو يجزيكم بما يعلمه من أمركم . ( كفى به شهيدا بيني وبينكم ) . . يشهد ويقضي ، وفي شهادته الكفاية وفي قضائه . ( وهو الغفور الرحيم ) . . وقد يرأف بكم ، فيهديكم رحمة منه ، ويغفر لكم ما كان من ضلالكم قبل الهدى والإيمان . .
رد فيه تحذير وترهيب . وفيه إطماع وتحضيض . يأخذ على القلب مسالكه ، ويلمس أوتاره . ويشعر السامعين أن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة ، وادعاءاتهم العابثة . وأنه في ضمير الداعية أكبر وأعمق مما يشعرون .
وقد كَذَبوا وافتروا وضَلّوا وكفروا { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ }يعنون : محمدا صلى الله عليه وسلم . قال الله [ تعالى ]{[26380]} { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي : لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني - وليس كذلك - لعاقبني أشد العقوبة ، ولم يَقْدرْ أحد من أهل الأرض ، لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه ، كقوله : { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } [ الجن : 22 ، 23 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ . لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ، هذا تهديد لهم ، ووعيد أكيد ، وترهيب شديد .
وقوله : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة ، أي : ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم ، تاب عليكم وعفا عنكم ، وغفر [ لكم ] {[26381]} ورحم . وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا . قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان : 5 ، 6 ] .
وقوله تعالى : { أم يقولون افتراه } ، { أم } مقطوعة مقدرة ب { بل } وألف الاستفهام . و : { افتراه } معناه : اشتقه واختلقه ، فأمره الله تعالى أن يقول : { إن افتريته } فالله حسبي في ذلك ، وهو كان يعاقبني ولا يمهلني . ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله تعالى والاستنصار به عليهم وانتظار ما يقتضيه علمه { بما يفيضون فيه } من الباطل ومراَّدة الحق ، وذلك يقتضي معاقبتهم ، ففي اللفظة تهديد . والضمير في قوله : { فيه } يحتمل أن يعود على القرآن ، ويحتمل العودة على { بما } . والضمير في : { به } عائد على الله تعالى . و : { به } في موضع رفع ، وأفاض الرجل في الحديث والسب ونحوه : إذا خاض فيه واستمر .
وقوله : { وهو الغفور الرحيم } ترجية واستدعاء إلى التوبة ، لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان .
إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضَلال أقوالهم . وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الاضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله ، وأن المعنى : دَعْ قولهم : { هذا سحر مبين } [ الأحقاف : 7 ] ، واستمع لما هو أعجب وهو قولهم : { افتَراه } ، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر .
والاستفهام الذي يقدر بعد { أم } للإنكار على مقالتهم . والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الانكاري يتسلط على سبب الانكار ، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطاً على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم .
والضمير المنصوب في { افتراه } عائد إلى الحق في قوله : { قال الذين كفروا للحق } [ الأحقاف : 7 ] ، أو إلى القرآن لعلمه من المقام ، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله .
وقد أمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها ، فكان قوله تعالى : { قل } جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم . وقد تقدم ذلك في قوله : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في أوائل سورة البقرة ( 30 ) .
وجعل الافتراء مفروضاً بحرف { إن } الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله .
وانتصب { شيئاً } على المفعولية لفعل { تملكون } ، أي شيئاً يملك ، أي يستطاع ، والمراد : شيء من الدّفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئاً يَرد علي من الله . وتقدم معنى ( لا أملك شيئاً ) عند قوله تعالى : { قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم } في سورة العقود ( 17 ) .
والتقدير : إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها . فقوله : { فلا تملكون لي من الله شيئاً } دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام ، لأن معنى { لا تملكون لي } لا تقدرون على دفع ضر الله عني ، فاقتضى أن المعنى : إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه .
واعلم أن الشائع في استعمال ( لا أملك لك شيئاً ) ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } [ الأعراف : 188 ] وقوله { وما أملك لك من الله من شيء } [ الممتحنة : 4 ] ، أو أن يسند إلى عامّ نحو { قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم } ، فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه ، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحُكم على النبي صلى الله عليه وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أنه يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم .
واعلم أن وجه الملازمة بين الشرط وجوابه في قوله : { إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً } أن الله لا يقرّ أحداً على أن يبلِّغ إلى الناس شيئاً عن الله لَمْ يأمره بتبليغه ، وقد دلّ القرآن على هذا في قوله تعالى : { ولو تَقَوَّلَ علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 44 47 ] . ولعل حكمة ذلك أن التقول على الله يفضي إلى فساد عظيم يختل به نظام الخلق ، والله يَغار على مخلوقاته وليس ذلك كغيره من المعاصي التي تجلبها المظالمُ والعبث في الأرض لأن ذلك إقدام على ما هو معلوم الفساد لا يخفى على الناس فهم يدفعونه بما يستطيعون من حول وقوة ، أو حيلة ومصانعة . وأما التقول على الله فيوقع الناس في حيرة بماذَا يتلقَّوْنه فلذلك لا يُقره الله ويزيله .
وجملة { هم أعلم بما تفيضون فيه } بدل اشتمال من جملة { فلا تملكون لي من الله شيئاً } لأن جملة { فلا تملكون لي } تشتمل على معنى أن الله لا يرضى أن يفتري عليه أحد ، وذلك يقتضي أنه أعلم منهم بحال من يُخير عن الله بأنه أرسله وما يبلغه عن الله . وذلك هو ما يخوضون فيه من الطعن والقدح والوصف بالسحر أو بالافتراء أو بالجنون ، فمَا صْدَقُ ( ما ) الموصولة القرآن الذي دلّ عليه الضمير الظاهر في { افتراه } أو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل عليه الضمير المستتر في { افتراه } أو مجموع أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي دل عليها مختلف خوضهم . ومتعلق اسم التفضيل محذوف ، أي هو أعلم منكم . والإفاضة في الحديث : الخوض فيه والإكثار منه وهي منقولة من : فاض الماء ؛ إذا سال . ومنه حديث مستفيض مشتهر شائع ، والمعنى : هو أعلم بحال ما تفيضون فيه .
وجملة { كفى به شهيداً بيني وبينكم } بدل اشتمال من جملة { هو أعلم بما تفيضون فيه } لأن الاخبار بكونه أعلم منهم بكنه ما يفيضون فيه يشتمل على معنى تفويض الحكم بينه وبينهم إلى الله تعالى . وهذا تهديد لهم وتحذير من الخوض الباطل ووعيد .
والشهيد : الشاهد ، أي المخبر بالواقع . والمراد به هنا الحَاكم بما يعلمه من حالنا كما دلّ عليه قوله : { بيني وبينكم } لأن الحكم يكون بين خصمين ولا تكون الشهادة بينهما بل لأحدهما قال تعالى : { وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } [ النساء : 41 ] .
وإجراء وصفي { الغفور الرحيم } عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله : { كفى به شهيداً بيني وبينكم } من التهديد والوعيد ، وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم يقولون هؤلاء المشركون بالله من قريش، افترى محمد هذا القرآن، فاختلقه وتخرّصه كذبا، قل لهم يا محمد إن افتريته وتخرّصته على الله كذبا "فَلا تَمْلِكُونَ لي "يقول: فلا تغنون عني من الله إن عاقبني على افترائي إياه، وتخرّصي عليه شيئا، ولا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا إن أصابني به.
وقوله: "هُوَ أعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيه" يقول: ربي أعلم من كلّ شيء سواه بما تقولون بينكم في هذا القرآن والهاء من قوله: "تُفِيضُونَ فِيهِ" من ذكر القرآن...
وقوله: "كَفَى بِهِ شَهِيدا بَيْنِي وَبَيْنَكمْ" يقول: كفى بالله شاهدا عليّ وعليكم بما تقولون من تكذيبكم لي فيما جئتكم به من عند الله الغفور الرحيم لهم، بأن لا يعذبهم عليها بعد توبتهم منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا حرف المنابذة؛ يقول: إن افتريته فلا تملكون أنتم دفع عقوبة ذلك الافتراء عن نفسي، وهو كقوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعليّ إجرامي} [هود: 35] يقول: عليّ إثم ذلك وجُرمه. وإنما يقال هذا عند انتهاء الحجج والبراهين غايتها حتى لا يُقطع منهم القبول والنجع فيهم، ويُيأس منهم، فعند ذلك يقال ذلك، ويُنابَذ، والله أعلم...
{وهو أعلم بما تُفيضون فيه} أي بما تخوضون فيه، يقول هذا، ويذكر لئلا يقولوا، ولا يدّعوا غفلته عن ذلك، بل يُذكّرهم أنه كان عالما بما يُسرّون، ويُعلنون...
وقيل: {تُفيضون} من قولهم: أفاضوا إذا علموا، وتحدّثوا،... {وهو الغفور الرحيم} ذُكر هذا في هذا الموضع على إثر ما ذكر من غاية سفههم تعنُّتهم، والله أعلم، كأنه يقول: إنكم وإن بلغتم في السَّفه ما بلغتم، فإنكم إذا رجعتم عن ذلك، وتُبتم، يغفر لك ما كان منكم،...وقوله تعالى: {كفى به شهيدا بيني وبينكم} يخرّج على وجهين: أحدهما: أي يشهدون في الآخرة أنه قد بلّغ رسالته. والثاني: أي كفى به شهيدا بيني وبينكم في الدنيا بما علم ما كان منكم من الشرك والتكذيب ومنّي من التبليغ، فهو شاهد بما كان منّي ومنكم في الدنيا من سرّ وعلانية، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"هو أعلم بما تفيضون فيه" يقال: أفاض القوم في الحديث إذا مضوا فيه، وحديث مستفيض أي شائع، من قولكم هذا سحر وافتراء،... "وهو الغفور" لذنوب عباده "الرحيم" بكثرة نعمه عليهم. وفي ذلك حث لهم على المبادرة بالتوبة والرجوع إلى طريق الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم: إن محمداً افتراه. ومعنى الهمزة في أم: الإنكار والتعجيب، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المفضى منه العجب... {قُلْ إِنِ افتريته} على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه. فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عني، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه...
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله تعالى، والطعن في آياته، وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى...
ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد لهم على إقامتهم في الطعن والشتم. ثم قال: {وهو الغفور الرحيم} بمن رجع عن الكفر وتاب واستعان بحكم الله عليهم مع عظم ما ارتكبوه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أم يقولون} مجددين لذلك متابعين له {افتراه} أي تعمد كذبه، فيكون ذلك من قولهم عجباً لأنه قول مقرون بما يكذبه ويبطله كما يأتي في تقريره. ولما كان كأنه قيل: إنهم ليقولون ذلك، وقد قرحوا القلوب به فماذا يردهم عنه؟ قيل-: {قل} ما هو أشد عليهم من وقع النبل، وهو ما يرد ما رموك به عليهم بحجة هي أجلى من الشمس في الظهيرة صحواً ليس دونها سحاب... {إن افتريته} أي تعمدت كذبه على زعمكم وأنا إنما أريد به- نصيحتكم، فالذي أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً، وذلك هو معنى قوله: {فلا تملكون} أي أيها المنصوحون في وقت من الأوقات بوجه من الوجوه {لي من الله} أي الملك الأعظم العزيز المتكبر الحكيم {شيئاً} مما يرد عني انتقامه مني لأن الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب، فكيف بمن يتعمد الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة ويلازمه مساء وصباحاً غدواً ورواحاً، فأي حامل لي حينئذ على افترائه...
{هو أعلم} أي منكم ومن كل أحد {بما تفيضون فيه} من نسبتي إلى الكذب، فلو أنه كما تقولون ما ناظرني فضلاً عن أنه يؤيدني وينصرني، وفيه على ذلك تهديد لهم وتسلية له وتفريج عنه...
{كفى} وأكد الكلام بما قرن بالفاعل من حرف الجر تحقيقاً للفعل ونفياً للمجاز فقال: {به شهيداً} أي شاهداً بليغ الشهادة لأنه الأعلم بجميع أحوالنا {بيني وبينكم} يشهد بنفسه الأقدس للصادق منا وعلى الكاذب، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه...
{وهو الغفور} الذي من شأنه أن يمحو الذنوب كلها أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {الرحيم} الذي يكرم بعد المغفرة ويفضل بالتوفيق لما يرضيه، ففي هذا الختام ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في الصفح عنهم فيما نسبوه إليه في افتتاحها من الافتراء، وندب إلى الإحسان إليهم، وترغيب لهم في التوبة...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمداً على الله تعالى، فإن الكذب خصوصاً عليه عز وجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة، وما في... {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وافتراءً أخرى، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولاً كان أو فعلاً مجاز مشهور، وأصلها إسالة الماء يقال: أفاض الماء إذا أساله،...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: فتوبوا إليه وأقلعوا عما أنتم فيه يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم فيوفقكم للخير ويثيبكم جزيل الأجر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أم يقولون افتراه؟).. فيبلغ بهم التطاول أن يقولوا هذه المقولة التي لا تخطر على بال؟! ويلقن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يرد عليهم بأدب النبوة، الذي ينم عن حقيقة شعوره بربه، وشعوره بوظيفته، وشعوره بحقيقة القوى والقيم في هذا الوجود كله: (قل: إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا. هو أعلم بما تفيضون فيه. كفى به شهيدا بيني وبينكم. وهو الغفور الرحيم).. قل لهم: كيف أفتريه؟ ولحساب من أفتريه؟ ولأي هدف أفتريه؟ أأفتريه لتؤمنوا بي وتتبعوني؟ ولكن: (إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا).. وهو آخذني بما افتريت. فماذا يجديني أن تكونوا معي وأن تتبعوني. وأنتم أعجز من أن تحموني من الله حين يأخذني بافترائي، وأضعف من أن تنصروني؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضَلال أقوالهم. وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الاضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله، وأن المعنى: دَعْ قولهم: {هذا سحر مبين} [الأحقاف: 7]، واستمع لما هو أعجب وهو قولهم: {افتَراه}، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر.
والاستفهام الذي يقدر بعد {أم} للإنكار على مقالتهم. والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الانكاري يتسلط على سبب الانكار، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطاً على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم.
والضمير المنصوب في {افتراه} عائد إلى الحق في قوله: {قال الذين كفروا للحق} [الأحقاف: 7]، أو إلى القرآن لعلمه من المقام، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله.
وقد أمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها، فكان قوله تعالى: {قل} جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم. وقد تقدم ذلك في قوله: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في أوائل سورة البقرة (30).
وجعل الافتراء مفروضاً بحرف {إن} الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله.
وانتصب {شيئاً} على المفعولية لفعل {تملكون}، أي شيئاً يملك، أي يستطاع، والمراد: شيء من الدّفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئاً يَرد علي من الله. وتقدم معنى (لا أملك شيئاً) عند قوله تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم} في سورة العقود (17).
والتقدير: إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها. فقوله: {فلا تملكون لي من الله شيئاً} دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام، لأن معنى {لا تملكون لي} لا تقدرون على دفع ضر الله عني، فاقتضى أن المعنى: إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه.
واعلم أن الشائع في استعمال (لا أملك لك شيئاً) ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً} [الأعراف: 188] وقوله {وما أملك لك من الله من شيء} [الممتحنة: 4]، أو أن يسند إلى عامّ نحو {قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم}، فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحُكم على النبي صلى الله عليه وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أنه يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم.
واعلم أن وجه الملازمة بين الشرط وجوابه في قوله: {إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً} أن الله لا يقرّ أحداً على أن يبلِّغ إلى الناس شيئاً عن الله لَمْ يأمره بتبليغه، وقد دلّ القرآن على هذا في قوله تعالى: {ولو تَقَوَّلَ علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: -44- 47]. ولعل حكمة ذلك أن التقول على الله يفضي إلى فساد عظيم يختل به نظام الخلق، والله يَغار على مخلوقاته وليس ذلك كغيره من المعاصي التي تجلبها المظالمُ والعبث في الأرض لأن ذلك إقدام على ما هو معلوم الفساد لا يخفى على الناس فهم يدفعونه بما يستطيعون من حول وقوة، أو حيلة ومصانعة. وأما التقول على الله فيوقع الناس في حيرة بماذَا يتلقَّوْنه فلذلك لا يُقره الله ويزيله.
وجملة {هم أعلم بما تفيضون فيه} بدل اشتمال من جملة {فلا تملكون لي من الله شيئاً} لأن جملة {فلا تملكون لي} تشتمل على معنى أن الله لا يرضى أن يفتري عليه أحد، وذلك يقتضي أنه أعلم منهم بحال من يُخير عن الله بأنه أرسله وما يبلغه عن الله. وذلك هو ما يخوضون فيه من الطعن والقدح والوصف بالسحر أو بالافتراء أو بالجنون، فمَا صْدَقُ (ما) الموصولة القرآن الذي دلّ عليه الضمير الظاهر في {افتراه} أو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل عليه الضمير المستتر في {افتراه} أو مجموع أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي دل عليها مختلف خوضهم. ومتعلق اسم التفضيل محذوف، أي هو أعلم منكم. والإفاضة في الحديث: الخوض فيه والإكثار منه وهي منقولة من: فاض الماء؛ إذا سال. ومنه حديث مستفيض مشتهر شائع، والمعنى: هو أعلم بحال ما تفيضون فيه.
وجملة {كفى به شهيداً بيني وبينكم} بدل اشتمال من جملة {هو أعلم بما تفيضون فيه} لأن الاخبار بكونه أعلم منهم بكنه ما يفيضون فيه يشتمل على معنى تفويض الحكم بينه وبينهم إلى الله تعالى. وهذا تهديد لهم وتحذير من الخوض الباطل ووعيد.
والشهيد: الشاهد، أي المخبر بالواقع. والمراد به هنا الحَاكم بما يعلمه من حالنا كما دلّ عليه قوله: {بيني وبينكم} لأن الحكم يكون بين خصمين ولا تكون الشهادة بينهما بل لأحدهما قال تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41].
وإجراء وصفي {الغفور الرحيم} عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله: {كفى به شهيداً بيني وبينكم} من التهديد والوعيد، وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(أم يقولون افتراه). إنّ الله سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع... (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً) فكيف يمكن أن يظهر الله سبحانه هذه الآيات البينات والمعجزة الخالدة على يد كذّاب؟ إنّ هذا بعيد عن حكمة الله ولطفه...
(هو أعلم بما تفيضون فيه) وسيعاقبكم في الوقت اللازم...
(كفى به شهيداً بيني وبينكم) فهو يعلم صدق دعوتي، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي، وهذا كاف لي ولكم. ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق، ويعلمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة، يقول: (وهو الغفور الرحيم) فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم، ويدخلهم في رحمته.