ثم انتقل - سبحانه - إلى توبيخهم على لون آخر من مزاعمهم فقال : { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ .
أى : وقل لهم - يا محمد - على سبيل إلزامم الحجة : بل ألكم { أَيْمَانٌ } أى : عهود ومواثيق مؤكدة { عَلَيْنَا } وهذه العهود { بَالِغَة } أقصى مداها فى التوكيد ، وثابتة لكم علينا { إلى يَوْمِ القيامة } بأنا قد سوينا بين المسلمين والمجرمين فى أحكامنا ، كما زعمتم أنتم ؟ إن كانت لكم علينا هذه الإيمان والعهود ، فأظهروها للناس ، وفى هذه الحالة يكون من حقكم أن تحكموا بما حكمتم به .
ومما لا شك فيه ، أنهم ليست لهم عهود عند الله بما زعموه من أحكام ، وإنما المقصود من الآية الكريمة ، بيان كذبهم فى أقوالهم ، وبيان أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بجواب يثبتون به مدعاهم .
وقوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جواب القسم ، لأن قوله : { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا } بمعنى : أم أقسمنا لكم إيمانا موثقة بأننا رضينا بأحكامكم التى تسوون فيها بين المسلمين والمجرمين .
( أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ? ) . . فإن لا يكن ذلك فهو هذا . وهو أن تكون لهم مواثيق على الله ، سارية إلى يوم القيامة ، مقتضاها أن لهم ما يحكمون ، وما يختارون وفق ما يشتهون ! وليس من هذا شيء . فلا عهود لهم عند الله ولا مواثيق . فعلام إذن يتكلمون ? ! وإلام إذن يستندون ? !
قوله تعالى : { أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة } مخاطبة للكفار ، كأنه يقول : هل أقسمنا لكم قسماً فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده ؟ وقرأ جمهور الناس بالرفع على الصفة لأيمان ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بالغةً » بالنصب على الحال وهي حال من النكرة ، لأنها نكرة مخصصة بقوله { علينا }{[11256]} ، وقرأ الأعرج : «أإن لكم لما تحكمون » وكذلك في التي تقدمت في قوله : «أإن لكم فيه لما تخيرون » .
{ أم } للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهداً أخذوه على الله لأنفسهم أن يعاملهم يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم ، فالاستفهام اللازم تقديره بعد { أم } إنكاري و { بالغة } مؤكَّدة . وأصل البالغة : الواصلة إلى ما يُطلب بها ، وذلك استعارة لمعنى مغلظة ، شبهت بالشيء البالغ إلى نهاية سيره وذلك كقوله تعالى : { قل فللَّه الحجة البالغة } [ الأنعام : 149 ] .
وقوله : { علينا } صفة ثانية ل { أيمان } أي أقسمناها لكم لإِثبات حقكم علينا .
و { إلى يوم القيامة } صفة ثالثة ل { أيمان } ، أي أيمان مُؤبدة لا تَحلَّة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدّهر ، فليس يومُ القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } في سورة الأحقاف ( 5 ) .
ويتعلق { إلى يوم القيامة } بالاستقرار الذي في الخبر في قوله : { لكم أيمان } ولا يحسن تعلقه ب { بالغة } تعلق الظرف اللغو لأنه يصير { بالغة } مستعملاً في معنى مشهور قريب من الحقيقة ، ومحملُ { بالغة } على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة { إن لكم لَما تحكمون } بيان ل { أيمان } ، أي أيمان بهذا اللفظ .
ومعنى ( ما تحكمون ) تأمرون به دون مراجَعة ، يقال : نزلوا على حكم فلان ، أي لم يعينوا طِلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان ، قال خَطاب أو حطان بن المُعلَّى :
أنزلني الدّهر على حكمه *** من شامخٍ عالٍ إلى خفض
أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدّهر فأنزلني من معاقلي وتصرف فيَّ كما شاء .
ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال « حُكْمُكَ مُسَمَّطاً » ( بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة ) أي لك حكمك نافذاً لا اعتراض عليك فيه . وقال ابن عَثمة :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قل لهم: يا محمد، {أم لكم أيمان علينا} يعني ألكم عهود علينا.
{بالغة إلى يوم القيامة} يقول: حلفنا لكم على يمين فهي لكم علينا بالغة لا تنقطع إلى يوم القيامة.
{إن لكم لما تحكمون} يعني ما تقضون لأنفسكم في الآخرة من الخير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أمْ لَكُمْ فيه أيمَانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ "يقول: هل لكم أيمان علينا تنتهي بكم إلى يوم القيامة، بأن لكم ما تحكمون أي بأن لكم حكمكم، ولكن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي هل شهدتم الله تعالى أقسم لكم أنه هكذا كما تحكمون...
سألهم عن إيراد الحجة إما من جهة الحكمة، وإما من جهة الكتاب، وإما من جهة الشهادة، فإذا لم يثبت لهم واحد من هذه الأوجه، فبأي وجه يشهدون على الله أنه يفعل ذلك؟
{بالغة} أي وكيدة، أو بلغت إليكم عن الله تعالى؟...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
أي: مؤكدة، ومعنى البالغة في كلام العرب في مثل هذه المواضع: هو بلوغ النهاية، يقال: هذا شيء جيد بالغ، أي: بلغ النهاية في الجودة.
(إلى يوم القيامة) يعني: اللزوم والثبات،
وقيل: ألكم أيمان مؤكدة ألا نعذبكم إلى يوم القيامة.
(إن لكم لما تحكمون) تفسير لما وقع عليه اليمين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني: أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد...
أي: هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذٍ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون.
ويجوز أن يتعلق ببالغة، على أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم.
{إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جواب القسم؛ لأنّ معنى {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} أم أقسمنا لكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسماً فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نفى دليل العقل والنقل مع التعجب منهم والتهكم بهم، وكان قد بقي أن الإنسان ربما عاهد غيره على شيء فيلزمه الوفاء به وإن كان خارجاً عما يدعو إليه العقل والنقل، نفى ذلك بقوله: {أم لكم أيمان} أي غليظة جداً {علينا} قد حملتمونا إياها {بالغة} أي لأجل عظمها إلى نهاية رتب التأكيد بحيث يكون بلوغ غيرها ما يقصد بالنسبة إلى بلوغها ذلك عدماً، أي أن بلوغها هو البلوغ لا غيره، أو ثباتها منته {إلى يوم القيامة} لا يمكن الخروج عن عهدتها إلا في ذلك اليوم ليحتاج لأجلها إلى إكرامكم في الدارين.
ولما ذكر ذلك القسم بالأيمان ذكر المقسم عليه فقال: {إن لكم} أي خاصة دون المسلمين {لما تحكمون} أي تفعلونه فعل الحاكم الذي يلزم قوله لعلو أمره على وجه التأكيد الذي لا مندوحة عنه فتحكمون لأنفسكم بما تريدون من الخير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون؟).. فإن لا يكن ذلك فهو هذا. وهو أن تكون لهم مواثيق على الله، سارية إلى يوم القيامة، مقتضاها أن لهم ما يحكمون، وما يختارون وفق ما يشتهون! وليس من هذا شيء. فلا عهود لهم عند الله ولا مواثيق. فعلام إذن يتكلمون؟! وإلام إذن يستندون؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أم} للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهداً أخذوه على الله لأنفسهم أن يعاملهم يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم، فالاستفهام اللازم تقديره بعد {أم} إنكاري، و {بالغة} مؤكَّدة. وأصل البالغة: الواصلة إلى ما يُطلب بها، وذلك استعارة لمعنى مغلظة، شبهت بالشيء البالغ إلى نهاية سيره وذلك كقوله تعالى: {قل فللَّه الحجة البالغة} [الأنعام: 149]. وقوله: {علينا} صفة ثانية ل {أيمان} أي أقسمناها لكم لإِثبات حقكم علينا. و {إلى يوم القيامة} صفة ثالثة ل {أيمان}، أي أيمان مُؤبدة لا تَحلَّة منها، فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدّهر، فليس يومُ القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأبيد كما في قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} في سورة الأحقاف (5). ويتعلق {إلى يوم القيامة} بالاستقرار الذي في الخبر في قوله: {لكم أيمان}.