قوله تعالى{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } الآية ، نزلت في زينب ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حيناً ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار ، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : ما لك أرابك منها شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجتك " { واتق الله } في أمرها ثم طلقها زيد ، فذلك قوله عز وجل : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بالإسلام ، { وأنعمت عليه } بالتربية والإعتاق ، وهو زيد بن حارثة : { أمسك عليك زوجك } يعني : زينب بنت جحش واتق الله فيها ولا تفارقها ، { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } أي : تسر في نفسك ما الله مظهره ، أي : كان في قلبه لو فارقها لتزوجها . وقال ابن عباس : حبها . وقال قتادة : ود أنه طلقها . { وتخشى الناس } قال ابن عباس والحسن : تستحييهم . وقيل : تخاف لائمة الناس أن يقولوا : أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها . { والله أحق أن تخشاه } قال ابن عمر ، وابن مسعود ، وعائشة ، ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية . وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } . وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } قلت : يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك ، فقال : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) ، فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ، بل كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك ، فعاتبه الله وقال : لم قلت : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ؟ . وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لأظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي ، وهذا قول حسن مرضي وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها و نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم ، لأن الود وميل النفس من طبع الشر . وقوله : { أمسك عليك زوجك واتق الله } أمر بالمعروف ، وهو حسن لا إثم فيه . قوله تعالى : { والله أحق أن تخشاه } لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال : " أنا أخشاكم لله وأتقاكم له " ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء . قوله عز وجل : { فلما قضى زيد منها وطراً } أي : حاجة من نكاحها ، { زوجناكها } وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها . قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن زوجني الله من فوق سبع سموات . وقال الشعبي : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، إني أنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .
أخبرنا إسماعيل ابن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن حاتم بن حاتم بن ميمون ، أنبأنا بهز ، أنبأنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : فاذكرها علي ، قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت : يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . قال : ولقد رأيتنا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم ، حتى امتد النهار ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتتبع حجز نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ قال : فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني . قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا سليمان بن حرب ، أنبأنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس قال : " ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب ، أولم بشاة " .
أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن هشام بن ملاس النمري ، أنبأنا مروان الفزاري ، أنبأنا حميد عن أنس قال : " أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً " . قوله عز وجل : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج } إثم { في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً } والأدعياء : جمع الدعي ، وهو المتبني ، يقول : زوجناك زينب ، وهي امرأة زيد الذي تبنيته ، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبنى ، وإن كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب . { وكان أمر الله مفعولاً } أي : كان قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ 37 ْ } { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ }
وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين ، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة ، من جميع الوجوه وأن أزواجهم ، لا جناح على من تبناهم ، في نكاحهن .
وكان هذا من الأمور المعتادة ، التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير ، فأراد أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله ، وفعلاً ، وإذا أراد اللّه أمرًا ، جعل له سببًا ، وكان زيد بن حارثة يدعى " زيد بن محمد " قد تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فصار يدعى إليه حتى نزل { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ْ } فقيل له : " زيد بن حارثة " .
وكانت تحته ، زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان قد وقع في قلب الرسول ، لو طلقها زيد ، لتزوَّجها ، فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد ، ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فراقها .
قال اللّه : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ْ } أي : بالإسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ْ } بالعتق{[1]} حين جاءك مشاورًا في فراقها : فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته{[2]} مع وقوعها في قلبك : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ْ } أي : لا تفارقها ، واصبر على ما جاءك منها ، { وَاتَّقِ اللَّهَ ْ } تعالى في أمورك عامة ، وفي أمر زوجك خاصة ، فإن التقوى ، تحث على الصبر ، وتأمر به .
{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ْ } والذي أخفاه ، أنه لو طلقها زيد ، لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم .
{ وَتَخْشَى النَّاسَ ْ } في عدم إبداء ما في نفسك { وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ْ }{[3]} وأن لا تباليهم شيئًا ، { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ْ } أي : طابت نفسه ، ورغب عنها ، وفارقها . { زَوَّجْنَاكَهَا ْ } وإنما فعلنا ذلك ، لفائدة عظيمة ، وهي : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ } حيث رأوك تزوجت ، زوج زيد بن حارثة ، الذي كان من قبل ، ينتسب إليك .
ولما كان قوله : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ } عامًا في جميع الأحوال ، وكان من الأحوال ، ما لا يجوز ذلك ، وهي قبل انقضاء وطره منها ، قيد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ } أي : لا بد من فعله ، ولا عائق له ولا مانع .
وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة ، فوائد ، منها : الثناء على زيد بن حارثة ، وذلك من وجهين :
أحدهما : أن اللّه سماه في القرآن ، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره .
والثاني : أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه ، أي : بنعمة الإسلام والإيمان . وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم مؤمن ، ظاهرًا وباطنًا ، وإلا ، فلا وجه لتخصيصه بالنعمة ، لولا أن المراد بها ، النعمة الخاصة .
ومنها : أن المُعْتَق في نعمة الْمُعْتِق .
ومنها : جواز تزوج زوجة الدَّعِيّ ، كما صرح به .
ومنها : أن التعليم الفعلي ، أبلغ من القولي ، خصوصا ، إذا اقترن بالقول ، فإن ذلك ، نور على نور .
ومنها : أن المحبة التي في قلب العبد ، لغير زوجته ومملوكته ، ومحارمه ، إذا لم يقترن بها محذور ، لا يأثم عليها العبد ، ولو اقترن بذلك أمنيته ، أن لو طلقها زوجها ، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما ، أو يتسبب بأي سبب كان ، لأن اللّه أخبر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أخفى ذلك في نفسه .
ومنها : أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، قد بلغ البلاغ المبين ، فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه ، إلا وبلغه ، حتى هذا الأمر ، الذي فيه عتابه .
وهذا يدل ، على أنه رسول اللّه ، ولا يقول إلا ما أوحي إليه ، ولا يريد تعظيم نفسه .
ومنها : أن المستشار مؤتمن ، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير{[4]} ولو كان له حظ نفس ، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه .
ومنها : أن من الرأي : الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال ، فهو أحسن من الفرقة .
ومنها : [ أنه يتعين ]{[5]} أن يقدم العبد خشية اللّه ، على خشية الناس ، وأنها أحق منها وأولى .
ومنها : فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين ، حيث تولى اللّه تزويجها ، من رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، من دون خطبة ولا شهود ، ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتقول زوجكن أهاليكن ، وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات .
ومنها : أن المرأة ، إذا كانت ذات زوج ، لا يجوز نكاحها ، ولا السعي فيه وفي أسبابه ، حتى يقضي زوجها وطره منها ، ولا يقضي وطره ، حتى تنقضي عدتها ، لأنها قبل انقضاء عدتها ، هي في عصمته ، أو في حقه الذي له وطر إليها ، ولو من بعض الوجوه .
ثم ذكر - سبحانه - قصة زواج النبى صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش ، وما ترتب على هذا الزواج من هدم لعادات كانت متأصلة فى الجاهلية فقال - تعالى - : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . } أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن قلت للذى أنعم الله - تعالى - عليه بنعمة الإِيمان ، وهو زيد بن حارثة - رضى الله عنه - .
وأنعمت عليه ، بنعمة العتق ، والحرية ، وحسن التربية ، والمحبة ، والإِكرام . .
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } أى : اذكر وقت قولك له : أمسك عليك زوجك زينب بنت جحش ، فلا تطلقها ، واتق الله فى أمرها ، واصبر على ما بدر منها فى حقك . . .
وكان زيد - رضى الله عنه - قد اشتكى للنبى صلى الله عليه وسلم من تطاولها عليه ، وافتخارها بحسبها ونسبها ، وتخشينها له القول ، وقال : يا رسول الله ، إنى أريد أن أطلقها .
وقوله - تعالى - : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } معطوف على { تَقُولُ } . أى : تقول له ذلك وتخفى فى نفسك الشئ الذى أظهره الله - تعالى - لك ، وهو إلهامك بأن زيدا سيطلق زينب ، وأنت ستتزوجها بأمر الله - عز جل - .
قال الآلوسى : والمرد بالموصول { مَّا } عل ما أخرج الحكيم الترمذى وغيره عن على ابن الحسين ما أوحى الله - تعالى - به إليه من أن زينب سيطلقها زيد . ويتزوجها هو صلى الله عليه وسلم .
وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين ، كالزهرى ، وبكر بن العلاء ، والقشيرى ، والقاضى أبى بكر بن العربى ، وغيرهم .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } جملة : الله مبدية صلة الموصول الذى هو { مَا } . وما أبداه - سبحانه - هو زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب ، وذلك فى قوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } وهذا هو التحقيق فى معنى الآية ، الذى دل عليه القرآن ، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم .
وبه تعلم أن ما قاله بعض المفسرين ، من أن ما أخفاه فى نفسه صلى الله عليه وسلم وأبداه الله - تعالى - ، وهو وقوع زينب فى قلبه صلى الله عليه وسلم ومحبته لها ، وهى زوجة لزيد ، وأنها سمعته يقول عندما رآها : سبحان مقلب القلوب . . إلى آخر ما قالوا . . كله لا صحة له . .
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : ذكر ابن جرير وابن أبى حاتم - وغيرهما - هاهنا آثارا عن بعض السلف ، أحببنا أن نضرب عنها صفحا ، لعدم صحتها . فلا نوردها . .
هذا ، ولفضيلة شيخنا الجليل الدكتور أحمد السيد الكومى رأى فى معنى هذه الجملة الكريمة ، وهو أن ما أخفاه الرسول فى نفسه : هو علمه بإصرار زيد على طاقه لزينب ، لكثرة تفاخرها عليه ، وسماعه منها ما يكرهه .
وما لا يستطيع معه الصبر على معاشرتها .
وما أبداه الله - تعالى - : هو علم الناس بحال زيد معها ، ومعرفتهم بأن زينب تخشن له القول ، وتسمعه ما يكره ، وتفخر عليه بنسبها . .
فيكون المعنى : تقول للذى أنعم الله عليه ، وأنعمت عليه ، أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفى فى نفسك أن زيدا لن يستطيع الصبر على معاشرة زوجه لوجود التنافر بينهما . . مع أن الله - تعالى - قد أظهر ذلك عن طريق كثرة شكوى زيد منها ، وإعلانه أنه حريص على طلاقها ، ومعرفة كثير من الناس بهذه الحقيقة . . .
ومما يؤيد هذا الرأى أنه لم يرد لا فى الكتاب ولا فى السنة ما يدل دلالة صريح على أن الله قد أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيدا سيطلق زينب ، وأنه صلى الله عليه وسلم سيتزوجها ، بكل ما ورد فى ذلك هى تلك الرواية التى سبق أن ذكرناها عن على بن الحسين - رضى الله عنهما - .
قال صاحب الظلال : وهذا الذى أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم فى نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله . ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله . والجهر به فى حينه مهما كانت العواقب التى يتوقعها عن إعلانه . ولكنه صلى الله عليه وسلم كان أمام إلهام يجده فى نفسه ، ويتوجس فى الوقت ذاته من مواجهته ومواجهة الناس به حتى أذن الله بكونه . فطلق زيد زوجه فى النهاية . وهو لا يفكر لا هو لا زينب فيما سيكون بعد . .
وهذه الأوقال جميعها تهدم هدما تاما كل الروايات التى رويت عن هذا الحادث ، والى تشب بها أعداء الإِسلام فى كل زمان ومكان ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات .
وقوله - سبحانه - : { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه .
أى : تقول له ما قلت ، وتخفى فى نفسك ما أظهره الله ، وتخشى أن تواجه الناس بما ألهمك الله - تعالى - به من أمر زيد وزينب ، مع أن الله - تعالى - أحق بالخشية من كل ما سواه .
فالجملة الكريمة عتاب رقيق من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم وإرشاد له إلى أفضل الطرق ، وأحكم السبل ، لمجابهة أمثال هذه الأمور ، وحلها حلا سليما .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فقال : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } .
الوطر : الحاجة . وقضاء الوطر : بلوغ منتهى ما تريده النفس من الشئ ، يقال : قضى فلان وطره من هذا الشئ : إذا أخذ اقصى حاجته منه .
والمراد هنا : أن زيدا قضى حاجته من زينب ، ولم يبق عنده أدنى رغبة فيها ، بل صارت رغبته العظمى فى مفارقتها .
أى : فلما قضى زيد حاجته من زينب ، وطلقها ، وانقضت عدتها ، زوجناكها ، أى : جعلناها زوجة لك ، { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } أو ضيق أو مشقة { في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } أى : فى الزواج من أزواج أدعيائهم ، الذين تبنوهم { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أى : إذا طلق هؤلاء الأدعياء أزواجهم ، وانقضت عدة هؤلاء الأزواج ، فلا حرج على الذين سبق لهم هؤلاء الأدعياء أن يتزوجوا بنسائهم ، ولهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة .
{ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أى : وكان ما يريده الله - تعالى - حاصلا لا محالة .
قال الإِمام ابن كثير : قوله : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } أى : لما فرغ منها وفارقها زوجناكها ، وكان الذى ولى تزويجها منهه هو الله - عز وجل - بمعنى : أنه أوحى إليه أن يدخل بها بلا ولىّ ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر . .
روى الإِمام أحمد عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب - رضى الله عنها - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة " اذهب فاذكرها على " فانطلق حتى آتاها وهى تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت فى صدرى حتى ما أستطيع أن أنظر إليها . وجعلت أقول - وقد وليتها ظهرى ، ونكصت على عقبى - يا زينب . أبشرى . أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى - أى : أستشيره فى أمرى - فقامت إلى مسجدها . ونزول القرآن . وجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن " .
وروى البخارى عن أنس بن مالك ، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجنى الله من فوق سبع سماوات . .
وقال الإِمام الشوكانى : وقوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } .
أى : فى التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا ، كما كانت تفعله العرب ، فإنهم كانوا يتبنون من يريدون . . وكانوا يعتقدون أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه ، كما تحرم نساء أبنائهم على الحقيقة ، والأدعياء : جمع دعى ، وهو الذى يدعى ابنا من غير أن يكون ابنا على الحقيقة . فأخبرهم الله - تعالى - أن نساء الأدعياء حلال لهم - بعد انقضاء العدة - بخلاف الأبناء من الصلب ، فإن نساءهم تحرم على الآباء بنفس العقد عليها . .
ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش ، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات :
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ؛ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا . ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له . سنة الله في الذين خلوا من قبل . وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله . وكفى بالله حسيبا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وكان الله بكل شيء عليما . .
مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني ؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم ، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي : وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ، وكان الله غفورا رحيما . . . .
ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية ؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته . فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس . ولا بد من سوابق عملية مضادة . ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار ؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين .
وقد مضى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زوج زيد بن حارثة - الذي كان متبناه ، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعى إلى أبيه - من زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة ، ويحقق معنى قوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي .
ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك - فيما يحمل من أعباء الرسالة - مؤنة إزالة آثار نظام التبني ؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة . ويواجه المجتمع بهذا العمل ، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به ، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها !
وألهم الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن زيدا سيطلق زينب ؛ وأنه هو سيتزوجها ، للحكمة التي قضى الله بها . وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت ، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا .
وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اضطراب حياته مع زينب ؛ وعدم استطاعته المضي معها . والرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية - يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق ؛ فيقول لزيد [ الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له ، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء . والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب ] . . يقول له : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . . ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس . كما قال الله تعالى : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ! ) . . وهذا الذي أخفاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله . ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله . ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه . ولكنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أمام إلهام يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ، ومواجهة الناس به . حتى أذن الله بكونه . فطلق زيد زوجه في النهاية . وهو لا يفكر لا هو ولا زينب ، فيما سيكون بعد . لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له . حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها . ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء . إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة . بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار .
وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث ؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات !
إنما كان الأمر كما قال الله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) . . وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما حمل ؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية . حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد ، وذم الآلهة والشركاء ؛ وتخطئة الآباء والأجداد !
( وكان أمر الله مفعولا ) . . لا مرد له ، ولا مفر منه . واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه . وكان زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - بعد انقضاء عدتها . أرسل إليها زيدا زوجها السابق . وأحب خلق الله إليه . أرسله إليها ليخطبها عليه .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : لما انقضت عدة زينب - رضي الله عنها - قال رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] لزيد بن حارثة . " اذهب فاذكرها علي " فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، وأقول : إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذكرها ! فوليتها ظهري ، ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب . أبشري . أرسلني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها . ونزل القرآن . وجاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل عليها بغير إذن . . .
وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : إن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات .
ولم تمر المسألة سهلة ، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله ؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول : تزوج حليلة ابنه !
يقول تعالى مخبرا عن نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، إنه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الذي أنعم الله عليه ، أي : بالإسلام ، ومتابعة الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه } أي : بالعتق من الرق ، وكان سيدًا كبير الشأن جليل القدر ، حبيبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقال له : الحِبّ ، ويقال لابنه أسامة : الحِبّ ابن الحِبّ . قالت عائشة ، رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه . رواه أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي عنها {[23515]} .
وقال{[23516]} البزار : حدثنا خالد بن يوسف ، حدثنا أبو عَوَانة( ح ) ، وحدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو عوانة ، أخبرني عمران بن أبي سلمة{[23517]} ، عن أبيه : حدثني أسامة بن زيد قال : كنت في المسجد ، فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، فقالا يا أسامة ، استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأتيتُ رسولَ الله فأخبرته ، فقلت : علي والعباس يستأذنان ؟ فقال : " أتدري ما حاجتهما ؟ " قلت : لا يا رسول الله . فقال : " لكني أدري " ، قال : فأذن لهما . قالا يا رسول الله ، جئناك لتخبرنا : أيُّ أهلك أحبُّ إليك ؟ فقال : " أحب أهلي إليَّ فاطمة بنت محمد " قالا يا رسول الله ، ما نسألك عن فاطمة . قال : " فأسامة بن زيد بن حارثة ، الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " {[23518]} .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زَوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية - وأمها أميمة{[23519]} بنت عبد المطلب - وأصدقها عشرة دنانير ، وستين درهما ، وخِمارا ، ومِلْحَفة ، ودرْعًا ، وخمسين مُدّا من طعام ، وعشرة أمداد من تمر . قاله مقاتل بن حيان ، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها ، ثم وقع بينهما ، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله يقول له : " أمسك عليك زوجك ، واتق الله " . قال الله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } .
ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف ، رضي الله عنهم ، أحببنا أن نضرب عنها صفَحا لعدم صحتها فلا نوردها .
وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضا حديثًا ، من رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس فيه غرابة تركنا سياقه أيضا{[23520]} .
وقد روى البخاري أيضا بعضه مختصرا فقال : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا مُعَلَّى{[23521]} بن منصور ، عن حماد بن زيد ، حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك قال : إن هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } نزلت في شأن زينب بنت جحش ، وزيد بن حارثة ، رضي الله عنهما{[23522]} .
وقال{[23523]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق ، حدثنا ابن عيينة ، عن علي بن زيد بن جُدْعان قال : سألني علي بن الحسين ما يقول الحسن في قوله : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ] }{[23524]} ؟ فذكرت له فقال : لا ولكن الله أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد ليشكوها إليه قال : اتق الله ، وأمسك عليك زوجك . فقال : قد أخبرتك أني مُزَوّجكها ، وتخفي في نفسك ما الله مبديه .
وهكذا رُوي عن السُّدِّي أنه قال نحو ذلك .
وقال{[23525]} ابن جرير : حدثني إسحاق بن شاهين ، حدثني خالد ، عن داود عن عامر ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله ، لكتم : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }{[23526]} .
وقوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } : الوطر : هو الحاجة والأرب ، أي : لما فَرَغ منها ، وفارقها ، زَوّجناكها ، وكان الذي وَلي تزويجها منه هو الله ، عز وجل ، بمعنى : أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر .
قال{[23527]} الإمام أحمد : حدثنا هاشم - يعني : ابن القاسم أبو النضر - حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : " اذهب فاذكرها علي " . فانطلق حتى أتاها وهي تُخَمِّر عَجينها ، قال : فلما رأيتها عظمت في صدري - حتى ما أستطيع أن أنظر إليها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت{[23528]} على عقبي ، وقلت : يا زينب ، أبشري ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، عز وجل . فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . ولقد رأيتنا حين دَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [ واتبعته ]{[23529]} فجعل يتتبع حُجر نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر . قال : فانطلق حتى دخل البيت ، فذهبت أدخل معه ، فألقي الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب ، ووعظ القوم بما وعظوا به : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية .
ورواه مسلم والنسائي من طرق ، عن سليمان{[23530]} بن المغيرة ، به . {[23531]}
وقد روى البخاري ، رحمه الله ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات{[23532]} .
وقد قدمنا في " سورة النور " عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت زينب وعائشة ، فقالت زينب ، رضي الله عنها{[23533]} : أنا التي نزل تزويجي من السماء ، وقالت عائشة : أنا التي نزل عُذْري من السماء ، فاعترفت لها زينب ، رضي الله عنها . {[23534]}
وقال{[23535]} ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير جبريل عليه السلام . {[23536]}
وقوله : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } أي : إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك ؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة ، فكان يقال له : " زيد بن محمد " ، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } ، ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة ؛ ولهذا قال في آية التحريم : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم } [ النساء : 23 ] ليحترز من الابن الدَّعِي ؛ فإن ذلك كان كثيرًا فيهم .
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحَتَّمه ، وهو كائن لا محالة ، كانت زينب في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم عاتب تعالى نبيه بقوله : { وإذ تقول } الآية ، واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيداً لما اخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها و { أمسك عليك زوجك } وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقالوا خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا{[9520]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما الله مظهره » ، وقال الحسن : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أشد عليه من هذه الآية ، وقال هو وعائشة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه ، وروى ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب زيداً في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال ( سبحان الله مقلب القلوب ){[9521]} .
قال القاضي أبو محمد : وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها ، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها ، وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها ، ورووا عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له ، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : «اتق الله » أي في أقوالك و «أمسك عليك زوجك » وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر أباحه الله تعالى له وإن قال { أمسك } مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال{[9522]} ، وقوله : { أنعم الله عليه } يعني بالإسلام وغير ذلك ، وقوله : { وأنعمت عليه } يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة ، وزينب هي بنت جحش وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنا ليست كحرمة النبوة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ، قال فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخطبتها ففرحت ، وقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها{[9523]} .
و «الوطر » : الحاجة والبغية ، والإشارة هنا إلى الجماع ، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم «وطراً زوجتكها » .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين }{[9524]} [ القصص : 7 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في الآيتين ، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه ، وفي المهور الزوجان غائبان{[9525]} فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون ، وقوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله ، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور أي التي شأنها أن تفعل ، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت عائشة : أنا التي سبقت صفتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة في سرقة حرير{[9526]} ، وقالت زينب : أنا التي زوجني الله من فوق سبع سماوات{[9527]} .
وقال الشعبي : كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل{[9528]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عتابا من الله له: وَاذكر يا محمد "إذْ تَقُولُ لِلّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ "بالهِداية "وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ" بالعِتق، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهِ"... "وَاتّقِ اللّهَ": وخَفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك... عن عليّ بن حسين، قال: كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها قال: اتّقِ اللّهَ وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، قال الله: "وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْديهِ"...
وقوله: "فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا زَوّجْناكَها" يقول تعالى ذكره: فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته...
"زَوّجْناكَها" يقول: زوّجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه، "لكَيْلا يَكُونَ على المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ" يعني: في نكاح نساء من تَبَنّوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهنّ وبنّ منهم، "إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا" يقول: إذا قضوا منهنّ حاجاتهم، وآرابهم وفارقوهنّ وحَلَلْن لغيرهم، ولم يكن ذلك نزولاً منهم لهم عنهنّ.
"وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً" يقول: وكان ما قضى الله من قضاء مفعولاً: أي كائنا كان لا محالة. وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ماضيا مفعولاً كائنا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أنعم الله عليه بأن ذَكَرَه وأفرده من بين الصحابة باسمه، ويقال: أنعم اللَّهُ عليه بإقبالِكَ عليه وتَبَنِّيكَ له. ويقال: بأن أَعْتَقْتَه.
{وَتُخْفِى فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}: أي لم تُظهِرْ لهم أنَّ الله عَرَّفَكَ ما يكون من الأمر في المستأنف.
{وَتَخْشَى النَّاسَ} أي وتخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة من قصة زيد، وكانت تلك الخشية إشفاقاً منكَ عليهم، ورحمةً بهم. ويقال: تخشى الناسَ ألا يطيقوا سماعَ هذه الحالة ولا يَقْوَوا على تَحَمُّلِها، فربما يخطر ببالهم ما يَنْفي عنهم وُسْعَهم.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{والله أحق أن تخشاه} لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال:"أنا أخشاكم لله وأتقاكم له" ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَأَبْصَرَ امْرَأَتَهُ قَائِمَةً، فَأَعْجَبَتْهُ؛ فَقَالَ: (سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ زَيْنَبُ ذَلِكَ جَلَسَتْ، وَجَاءَ زَيْدٌ إلَى مَنْزِلِهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ زَيْنَبَ؛ فَعَلِمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ؛ فَأَتَى زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَلَاقِهَا، فَإِنَّ بِهَا غَيْرَةً وَإِذَايَةً بِلِسَانِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَهْلَك وَفِي قَلْبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ. فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ: اُذْكُرْنِي لَهَا فَانْطَلَقَ زَيْدٌ إلَى زَيْنَبَ، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُك. فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا فَنَزَلَتْ الْآيَة.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَتَخْشَى النَّاسَ}
الْأَوَّلُ: تَسْتَحِي مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، وَتَسْتَحِي مِنْهُ. وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ.
الثَّانِي: تَخْشَى النَّاسَ أَنْ يُعَاتِبُوك، وَعِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.
الثَّالِثُ: وَتَخْشَى النَّاسَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِيك.
وَقِيلَ: أَنْ يُفْتَتَنُوا من أَجْلِك، وَيَنْسُبُوك إلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَإِنَّهُ مَالِكُ الْقُلُوبِ، وَبِيَدِهِ النَّوَاصِي وَالْأَلْسِنَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ الْحَالِ:
قَدْ بَيَّنَّا فِي السَّالِفِ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ من الذُّنُوبِ، وَحَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيمَا نُسِبَ إلَيْهِمْ من ذَلِكَ، وَعَهِدْنَا إلَيْكُمْ عَهْدًا لَنْ تَجِدُوا لَهُ رَدًّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَبِيًّا إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَخْبَارَهُمْ مَرْوِيَّةٌ، وَأَحَادِيثَهُمْ مَنْقُولَةٌ بِزِيَادَاتٍ تَوَلَّاهَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا غَبِيٌّ عن مِقْدَارِهِمْ، وَإِمَّا بِدْعِيٌّ لَا رَأْيَ لَهُ فِي بِرِّهِمْ وَوَقَارِهِمْ، فَيَدُسُّ تَحْتَ الْمَقَالِ الْمُطْلَقِ الدَّوَاهِي، وَلَا يُرَاعِي الْأَدِلَّةَ وَلَا النَّوَاهِيَ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ}، أَيْ أَصْدَقُهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي أَمَالِي أَنْوَارِ الْفَجْرِ؛ فَهَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَصَى قَطُّ رَبَّهُ، لَا فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا بَعْدَهَا، تَكْرِمَةً من اللَّهِ وَتَفَضُّلًا وَجَلَالًا، أَحَلَّهُ بِهِ الْمَحَلَّ الْجَلِيلَ الرَّفِيعَ، لِيَصْلُحَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْقَضَاءِ يَوْمَ الْحَقِّ. وَمَا زَالَتْ الْأَسْبَابُ الْكَرِيمَةُ، وَالْوَسَائِلُ السَّلِيمَةُ تُحِيطُ بِهِ من جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، وَالطَّرَائِفُ النَّجِيبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ ضَرَائِبِهِ، وَالْقُرَنَاءُ الْأَفْرَادُ يَحْيَوْنَ لَهُ، وَالْأَصْحَابُ الْأَمْجَادُ يَنْتَقُونَ لَهُ من كُلِّ طَاهِرِ الْجَيْبِ، سَالِمٍ عن الْعَيْبِ، بَرِيءٍ من الرَّيْبِ، يَأْخُذُونَهُ عن الْعُزْلَةِ، وَيَنْقُلُونَهُ عن الْوَحْدَةِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا من كَرَامَةٍ إلَى كَرَامَةٍ، وَلَا يَتَنَزَّلُ إلَّا مَنَازِلَ السَّلَامَةِ حَتَّى تَجِيءَ بِالْحَيِيِّ نِقَابًا، أَكْرَمَ الْخَلْقِ سَلِيقَةً وَأَصْحَابًا، وَكَانَتْ عِصْمَتُهُ من اللَّهِ فَضْلًا لَا اسْتِحْقَاقًا؛ إذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا رَحْمَةً لَا مَصْلَحَةً، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ لِلْخَلْقِ، بَلْ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لَهُ وَرَحْمَةٍ بِهِ، وَتَفَضُّلٍ عَلَيْهِ، وَاصْطِفَاءٍ لَهُ، فَلَمْ يَقَعْ قَطُّ لَا فِي ذَنْبٍ صَغِيرٍ -حَاشَا لِلَّهِ- وَلَا كَبِيرٍ، وَلَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِأَجْلِهِ نَقْصٌ، وَلَا تَعْيِيرٌ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةُ الْأَسَانِيدِ؛ إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْهَا مَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا من الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ، {وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ} يَعْنِي بِالْعِتْقِ، فَأَعْتَقْته: {أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا: تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا، يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}.
فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٌ أَخُو فُلَانٍ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَبَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَوْضِعٍ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حِجَابٌ، فَكَيْفَ تَنْشَأُ مَعَهُ وَيَنْشَأُ مَعَهَا وَيَلْحَظُهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَلَا تَقَعُ فِي قَلْبِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَقَدْ وَهَبَتْهُ نَفْسَهَا، وَكَرِهَتْ غَيْرَهُ، فَلَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ هَوًى لَمْ يَكُنْ، حَاشَا لِذَلِكَ الْقَلْبِ الْمُطَهَّرِ من هَذِهِ الْعَلَاقَةِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}. وَالنِّسَاءُ أَفْتَنُ الزَّهَرَاتِ وَأَنْشَرُ الرَّيَاحِينِ، فَيُخَالِفُ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ، فَكَيْفَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ الْمَحْبُوسَاتِ!
وَإِنَّمَا كَانَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ زَيْدٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ: إنَّ زَيْنَبَ زَوْجُك، وَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَهُ زَيْدٌ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، فَأَبَى زَيْدٌ إلَّا الْفِرَاقَ، وَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدَيْ مَوْلَاهُ زَوْجِهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ الْمَذْكُورَ فِيهِ خَبَرُهُمَا، هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا وَفَسَّرْنَاهَا، فَقَالَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي فِرَاقِهَا، وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ يَعْنِي من نِكَاحِك لَهَا، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ لَا سِوَاهُ.
وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذْ أَوْحَى إلَيْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا بُدَّ من وُجُودِ هَذَا الْخَبَرِ وَظُهُورِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوبِ صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ، هَذَا يَدُلُّك عَلَى بَرَاءَتِهِ من كُلِّ مَا ذَكَرَهُ مُتَسَوِّرٌ من الْمُفَسِّرِينَ، مَقْصُورٌ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك)، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا زَوْجُ زَيْدٍ؟
قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُ؛ وَلَكِنْ لِطِيبِ نُفُوسِكُمْ نُفَسِّرُ مَا خَطَرَ من الْإِشْكَالِ فِيهِ: إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ بِهِ من رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ عَنْهَا، فَأَبْدَى لَهُ زَيْدٌ من النُّفْرَةِ عَنْهَا وَالْكَرَاهِيَةِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْفِرَاقَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ؟ قُلْنَا: بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَمَعْرِفَةِ الْعَاقِبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَلَيْسَ فِي مُخَالَفَةِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ لِمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ من الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا، وَهَذَا من نَفِيسِ الْعِلْمِ؛ فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ.
إشارة إلى أن التزويج من النبي عليه السلام لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله فإن الشرع يستفاد من فعل النبي.
{وكان أمر الله مفعولا} أي مقضيا ما قضاه كائن.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
في هذه الآيات المشتملات على هذه القصة فوائد:
منها: الثناء على زيد بن حارثة، وذلك من وجهين:...
الثاني: أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه، أي: بنعمة الإسلام والإيمان، وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم مؤمن ظاهرًا وباطنًا، وإلا، فلا وجه لتخصيصه بالنعمة، لولا أن المراد بها، النعمة الخاصة.
ومنها: أن التعليم الفعلي، أبلغ من القولي، خصوصا، إذا اقترن بالقول، فإن ذلك، نور على نور.
ومنها: أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، قد بلغ البلاغ المبين، فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه، إلا وبلغه، حتى هذا الأمر، الذي فيه عتابه، وهذا يدل على أنه رسول اللّه، ولا يقول إلا ما أوحي إليه، ولا يريد تعظيم نفسه.
ومنها: أن المستشار مؤتمن، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير ولو كان له حظ نفس، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه.
ومنها: أن من الرأي: الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال، فهو أحسن من الفرقة.
ومنها: [أنه يتعين] أن يقدم العبد خشية اللّه، على خشية الناس، وأنها أحق منها وأولى.
ومنها: فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين حيث تولى اللّه تزويجها، من رسوله صلى اللّه عليه وسلم، من دون خطبة ولا شهود، ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وتقول زوجكن أهاليكن، وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات.
ومنها: أن المرأة إذا كانت ذات زوج لا يجوز نكاحها، ولا السعي فيه وفي أسبابه، حتى يقضي زوجها وطره منها، ولا يقضي وطره، حتى تنقضي عدتها، لأنها قبل انقضاء عدتها هي في عصمته، أو في حقه الذي له وطر إليها، ولو من بعض الوجوه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي [صلى الله عليه وسلم] من زينب بنت جحش، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه؛ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا. وكان أمر الله مفعولا. ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له. سنة الله في الذين خلوا من قبل. وكان أمر الله قدرا مقدورا. الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله. وكفى بالله حسيبا. ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وكان الله بكل شيء عليما..
مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي: وما جعل أدعياءكم أبناءكم. ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم. وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفورا رحيما...
ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته. فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس. ولا بد من سوابق عملية مضادة. ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين.
وقد مضى أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] زوج زيد بن حارثة -الذي كان متبناه، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعى إلى أبيه- من زينب بنت جحش، ابنة عمة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة، ويحقق معنى قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي.
ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك -فيما يحمل من أعباء الرسالة- مؤنة إزالة آثار نظام التبني؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة. ويواجه المجتمع بهذا العمل، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها!
وألهم الله نبيه [صلى الله عليه وسلم] أن زيدا سيطلق زينب؛ وأنه هو سيتزوجها، للحكمة التي قضى الله بها. وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا.
وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] اضطراب حياته مع زينب؛ وعدم استطاعته المضي معها. والرسول -صلوات الله وسلامه عليه- على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية -يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق؛ فيقول لزيد [الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء. والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب].. يقول له: (أمسك عليك زوجك واتق الله).. ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس. كما قال الله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه!).. وهذا الذي أخفاه النبي [صلى الله عليه وسلم] في نفسه، وهو يعلم أن الله مبديه، هو ما ألهمه الله أن سيفعله. ولم يكن أمرا صريحا من الله. وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله. ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه. ولكنه [صلى الله عليه وسلم] كان أمام إلهام يجده في نفسه، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته، ومواجهة الناس به. حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب، فيما سيكون بعد. لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له. حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها. ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء. إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة. بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.
وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات!
إنما كان الأمر كما قال الله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا).. وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيما حمل؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية. حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد، وذم الآلهة والشركاء؛ وتخطئة الآباء والأجداد!
(وكان أمر الله مفعولا).. لا مرد له، ولا مفر منه. واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه. وكان زواجه [صلى الله عليه وسلم] من زينب- رضي الله عنها -بعد انقضاء عدتها. أرسل إليها زيدا زوجها السابق. وأحب خلق الله إليه. أرسله إليها ليخطبها عليه.
عن أنس- رضي الله عنه -قال: لما انقضت عدة زينب- رضي الله عنها -قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لزيد بن حارثة. "اذهب فاذكرها علي "فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، وأقول: إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذكرها! فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب. أبشري. أرسلني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل. فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن. وجاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فدخل عليها بغير إذن...
وقد روى البخاري- رحمه الله -عن أنس بن مالك- رضي الله عنه -قال: إن زينب بنت جحش- رضي الله عنها -كانت تفخر على أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله- تعالى -من فوق سبع سماوات.
ولم تمر المسألة سهلة، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول: تزوج حليلة ابنه!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {إذ} اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره: اذْكُر، وله نظائر كثيرة. وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكُّر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك ولكنه ذَكَّر رسوله صلى الله عليه وسلم ليُرتب عليه قوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه}. والمقصود بهذا الاعتبارُ بتقدير الله تعالى الأسبابَ لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه، ولذلك قال عقبه: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} إلى قوله: {وكان أمر اللَّه مفعولاً} وقوله: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} [الأحزاب: 38].
والإِتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74] وقوله: {ويصنع الفلك} [هود: 38]، وفي ذلك تصوير لحثِّ النبي صلى الله عليه وسلم زيداً على إمساك زوجه وأن لا يطلقها، ومعاودته عليه.
والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العَلم الذي يأتي في قوله: {فلما قضى زيد} لما تشعر به الصلة المعطوفة وهي {وأنعمت عليه} من تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي {وأنعمت عليه} لأن المقصود منها أن زيداً أخص الناس به، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أحرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به، وأما صلة {أنعم الله عليه} فهي توطئة للثانية.
واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة: أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له، فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلّت عليه بسؤددها وغضّت منه بولايته فلما تكرّر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده، وروي عن علي زين العابدين: أن الله أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينكح زينب بنت جحش. وعن الزهري: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يُعلمه أن الله زوّجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه. وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري وأبي بكر بن العربي، والظاهر عندي: أن ذلك كان في الرؤيا.
{أمسك عليك}: لازِم عشرتها، فالإِمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيهاً للصاحب بالشيء الممسَك باليد، وزيادة {عليك} لدلالة (على) على الملازمة والتمكن مثل {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] أو لتضمن {أمسك} معنى احبس، أي ابق في بيتك زوجك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إشارة إلى مسألة كلّية، وهي أنّ تعدّد زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن أمراً عادياً بسيطاً، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه.
وجملة (كان أمر الله مفعولا) إشارة إلى وجوب الحزم في مثل هذه المسائل، وكلّ عمل ينبغي فعله يجب أن ينجز ويتحقّق، حيث لا معنى للاستسلام أمام الضجيج والصخب في المسائل التي تتعلّق بالأهداف العامّة والأساسية.