اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

قوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإِسلام «وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ » بالتحرير والإِعتاق{[43583]} .

قوله : «أَمْسِكْ عَلَيْكَ » نص بعض النحويين على أن «على » في مثل هذا التركيب اسم قال : لئلا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضمير المتصل في غير باب «ظَنَّ » وفي لفظتي : فَقَدَ وعَدِمَ وجعل من ذلك :

4090 - هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الأُمُ *** ورَ بِكَفِّ الإِلَهِ مَقَادِيرُهَا{[43584]}

وكذلك حكم على «عن » في قوله :

4091 - [ ف ] دَعْ عَنْكَ نَهبْاً صِيحَ في حجَرَاتِهِ{[43585]} *** . . .

وقد تقدم ذلك مُشْبَعاً في النَّحل في قوله : { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ }{[43586]} ، وفي قوله : { وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] ( وقوله ){[43587]} : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] .

قوله : «وَتُخْفِي » فيه أوجه :

أحدها : أنه معطوف على «تقول » أي وإِذْ تَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِكَ كَذَا وإِخْفَاءِ كَذَا وخَشْيَةِ الناس{[43588]} قاله الزمخشري .

الثاني : أنها واو الحال أي تقول كذا في هذه الحالة ، قاله الزمخشري أيضاً{[43589]} ، وفيه نظر حيث إنه مضارع مثبت فكيف تباشره الواو ؟ وتخريجه كتخريج «قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ » أعني على إضمار مبتدأ .

الثالث : أنه مستأنف قاله الحوفي{[43590]} ، وقوله : { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } تقدم مثله في بَرَاءَةَ{[43591]} .

فصل :

قال المفسرون إن الآية نزلت في زَيْنَبَ بنتِ جَحْش ، وذلك «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوج «زينب » من «زَيْد » مكثَتْ عنده حيناً ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زيداً ذات يوم لحاجة فأبصر زينب قائمةً في دِرْع وخِمَار ، وكانت بيضاء وجميلة ذات خُلُق من أتمِّ نساء قريش فوقعت في نفسه ، وأعجبه حسنها فقال : سبحان{[43592]} الله مقلِّبَ القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أريدُ أن أفارق صاحبتي قال : ما لك أَرَابَكَ{[43593]} منها شيء قال : لاَ واللَّهِ يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعظم عَلَيَّ لشرفها وتؤذيني بلسانها . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجَكَ يعني زينب بنت جحش واتَّقِ اللَّهِ في أمرها ثم طلَّقَها زيدٌ » ، فذلك قوله عز وجل : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } فيها ولا تفارقها { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } أي تُسرُّ في نفسك ما الله مظهره أي كان في قلبه لو فارقها تزوجها . وقال ابن عباس{[43594]} : حبها ، وقال قتادة : وَدَّ أنه لو طلقها{[43595]} «وَتَخْشَى النَّاسَ » قال ابنُ عباس والحسن{[43596]} : تستحييهم ، وقيل : تخاف لائمةَ{[43597]} الناس أن يقولوا أمرَ رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها ، { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } .

قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه ( الآية{[43598]} ) . وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مِمَّا أوحي إليه لكتم هذه{[43599]} الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } وروي عن سفيانَ بْن عُيَيْنَةَ عن عليِّ بن جُدْعَانَ قال : سألني عليّ بن الحُسَيْنِ زَيْنُ العابدين ما يقول الحَسَنُ في قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } قال : قلت : ( تقول{[43600]} ) : «لَمَّا جاء زيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال : أمسك عليك زوجك واتق الله » فقال علي بن الحسين ليس كذلك كان الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها فلما جاء زيد قال : أريد أن أطلقها قال له : أمْسِكْ عليك زوجك فعاتبه الله وقال : لِمَ قُلْتَ : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو{[43601]} الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : «زَوَّجْنَاكَهَا » فلو كان الذي أضمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أنه يخبر أنه يُظْهِرُه ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : إن الذي تحتك في نِكَاحِكَ ستكون امرأتي وهذا حسن{[43602]} وإن كان الآخرَ وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم ؛ لأن الوُدَّ ومَيْلَ النفس من طبع البشر ، وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله : { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه ( الصلاة{[43603]} و ) السلام قد قال : «أَنَا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ »{[43604]} ولكن المعنى الله أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ وَحْدَهُ ، ولا تخشى أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً ، فلما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء{[43605]} .

قوله : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } ، «وطراً » مفعول «قضى » ، والوَطَرُ الشهوة والمحبة{[43606]} قاله المبرد وأنشد :

4092 - وَكَيْفَ ثَوَائِي بالمَدِينَةِ بَعْدمَا *** قَضَى وَطَراً مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ معْمَرِ{[43607]}

وقال أبو عبيدة : الوَطَرُ : الأَرَبُ والحَاجَةُ ، وأنشد الربيعُ بن ضبع الفزَارِيُّ :

4093 - وَدَّعَنَا قَبْلَ أن نُوَدِّعَهُ *** لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا{[43608]}

وقرأ العامة : «زَوَّجْنَاكَهَا » ، وقرأ علي وابناه الحَسَنَان - رضي الله عنهم ، وأرضاهم - «زَوَّجْتُكَهَا »{[43609]} ، بتاء المتكلم و «لِكَيْلاَ » متعلق «بزوجناكها » . وهي هنا ناصبة فقط لدخول الجار عليها{[43610]} ، واتصل الضميران بالفعل ، لاختلافهما رتبةً .

فصل :

المعنى فلما قضى زيد منها حاجة{[43611]} من نكاحها زوجناكها ، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنَّى تَحِلُّ بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها ؛ لان الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن عنها ، وكذلك إذا كانت في العدة له بها تعلق لأجل شُغْلِ الرحم فلم يقض منها بعد وطر ، فإذا طلقت وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فقضى منها الوطر{[43612]} . قال أنس : كانت زينب تَفْتَخِرُ على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْق سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، وقال الشعبيُّ : كانت زينب تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - إِني لأُدِلُّ عَلَيْك بثلاث ما من نسائك امرأة تُدِلُّ بهن ، جَدِّي وَجدُّك واحد ، وإني أَنْكَحنِيكَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وإنَّ السفيرَ لَجِبْرِيل{[43613]} .

قوله : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } إثم { في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً } فالأدعياء جمع أَدْعَى وهو المتبنَّى بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحِل للأب { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً ، وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .


[43583]:قاله القرطبي في 14/188.
[43584]:قائله الأعور الشِّنِّي وهو بِشْرُ بْنُ مُنْقِذ. وهو من بحر المتقارب والشاهد فيه: "عليك" فإن "على" هنا اسم لأن مجرورها وفاعل ما تعلقت به ضميران لمسمى واحد وذلك لأنه لا يتعدى فعل المضمر المتصل في غير باب "ظن وفقد وعدم" فلا يقال: "ضَرَبْتَني، ولا فَرِحْتَ بِي" وقد نسب هذا القول لأبي الحسن الأخفش. وقد رد عليه بأنها لو كانت اسماً لصح حلول "فوق" محلها. وهذا لا يصح ويتخرج هذا إما على التعليق بمحذوف كما في نحو: سَقْياً لَكَ، أو على حذف مضاف أي هَوِّن على نفسك. وقد تقدم.
[43585]:صدر بيت لامرئ القيس من الطويل وتمامه: ............ *** ولكن حديثاً ما حديث الرَّواحل ويروى: "فَدَعْ" كما في اللسان وهو الأصح لاستقامة وزن البيت شعرياً. وشاهده: "عنك" حيث تعدى فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل، وقد قال الأخفش: إن "عَنْ" هنا اسم والقول فيه كسابقه، وصدر البيت يضرب مثلاً لمن ذهب من ماله شيء ثم ذهب بعده ما هو أجل منه. ولهذا البيت مناسبة ذكرها ابن منظور في اللسان نقلاً عن ابن الأثير وانظر اللسان: "ح ج ر" 783 وديوانه (94) والهمع 2/92 والبحر المحيط 7/230 ومغني اللبيب 150 وتوضيح المقاصد 2/219، والدر المصون 4/386 والارتشاف 73.
[43586]:من الآية 57 منها.
[43587]:زياد يتم بها الكلام.
[43588]:الكشاف 3/213 قال: كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك أمْسِكْ وإخفاء خلافه وخشية الناس والله أحق أن تخشاه حتى لا تفعل مثل ذلك.
[43589]:المرجع السابق.
[43590]:ذكره أبو حيان في البحر 7/235.
[43591]:يشير إلى قوله: {أتخشونهم فالله أحق} من الآية 13.
[43592]:وهذا هو رأي مقاتل، انظر: تفسير القرطبي 14/190.
[43593]:في "ب" ما رأيك منها شيء.
[43594]:المرجع السابق.
[43595]:وهذا رأي مقاتل وابن جريج أيضاً، انظر: زاد المسير 6/387.
[43596]:قاله الإمام القرطبي في تفسيره 14/190.
[43597]:نقله ابن الجوزي في الزاد المرجع السابق.
[43598]:سقط من "ب" وانظر المرجع السابق.
[43599]:السابق.
[43600]:سقط من "ب".
[43601]:قال القرطبي بعد إيراده هذا الأثر: " وهو الذي عليه أهل التحقيق من المُفَسِّرينَ والعلماء الراسخين كالزهري، والقاضي أبو بكر بن العلاء القُشَيْرِي والقاضي أبو بكر بن العربي وغيرهم". انظر: تفسير الجامع "14/191".
[43602]:نقله ابن الجوزي في تفسيره 6/390 وهذا رأي الثعلبي والواحديِّ.
[43603]:زيادة من "ب".
[43604]:الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ عن عائشة انظر: الموطأ 193 و 194.
[43605]:نقله ابن الجوزي 6/388.
[43606]:في البحر 7/211.
[43607]:البيت من الطويل وقائله مجهول. وانظر مجمع البيان 7/562 وفتح القدير 4/284 والكامل للمبرد 2/50، والبحر المحيط 7/209 و 211، والدر المصون 4/390 والقرطبي 14/194.
[43608]:من المنسرح وهو للربيع بن ضبع الفزاري. انظر: مجاز القرآن 2/138 ونوادر أبي زيد 446 وفتح القدير 4/284 والمحتسب 1/167 والطبري 22/11 والبحر المحيط 7/209 والدر المصون 4/390 والمغني 689 وقد روي: فارقنا قبل أن نفارقه *** لما قضى من جماعتنا وطرا
[43609]:من القراءات الشاذة غير المتواترة وانظر: مختصر ابن خالويه 119 و 120 والقرطبي 14/194.
[43610]:هذا هو القسم الثالث من أقسام "كي" وهو أن تجيء بمنزلة "أن" المصدرية معنى وعملاً وذلك إذا وقعت بعد اللام وليس بعدها "أن".
[43611]:في "ب" حاجته.
[43612]:قاله الإمام الفخر في تفسيره 25/212.
[43613]:قاله القرطبي في تفسيره 14/195.