البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

الوطر ، قال أبو عبيدة : كالأرب ، وأنشد للربيع بن أصبغ :

ودعنا قبل أن نودعه *** لما قضى من شبابنا وطرا

وقال المبرد : الوطر : الشهوة والمحبة ، يقال : ما قضيت من لقائك وطراً ، أي ما استمتعت بك حتى تشتهي نفسي وأنشد :

وكيف ثوائي بالمدينة بعدما *** قضى وطرا منها جميل بن معمر

{ وإذ تقول } : الخطاب للرسول ، عليه السلام .

{ للذي أنعم الله عليه } ، بالإسلام ، وهو أجل النعم ، وهو زيد بن حارثة الذي كان الرسول تبناه .

{ وأنعمت عليه } : وهو عتقه ، وتقدّم طرف من قصته في أوائل السورة .

{ أمسك عليك زوجك } : وهي زينب بنت جحش ، وتقدّم أن الرسول كان خطبها له .

وقيل : أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك ، وأنعمت عليه بتبنيه .

فجاء زيد فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : « أرابك منها شيء » قال : لا والله ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال : « { أمسك عليك زوجك } » ، أي لا تطلقها ، وهو أمر ندب ، « { واتق الله } في معاشرتها » فطلقها ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد انقضاء عدّتها .

وعلل تزويجه إياها بقوله : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج } في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن ، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله :

{ وحلائل أبنائكم } وقال علي بن الحسين : كان قد أوحى الله إليه أن زيداً سيطلقها ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها .

فلما شكا زيد خلقها ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه بأنه يريد طلاقها ، قال : له « { أمسك عليك زوجك واتق الله } » ، على طريق الأدب والوصية ، وهو يعلم أنه سيطلقها .

وهذا هو الذي أخفي في نفسه ، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق .

ولما علم من أنه سيطلقها ، وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد ، وهو مولاه ، وقد أمره بطلاقها ، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال ؛ { أمسك } ، مع علمه أنه يطلق ، فأعلمه أن الله أحق بالخشية ، أي في كل حال . انتهى .

وهذا المروي عن علي بن الحسين ، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين ، كالزهري ، وبكر بن العلاء ، والقشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم .

والمراد بقوله : { وتخشى الناس } ، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في حركاته وسكناته .

ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة ، ضربنا عنه صفحاً .

وقيل ؛ قوله { واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه } : خطاب من الله عز وجل ، أو من النبي صلى الله عليه وسلم لزيد ، فإنه أخفى الميل إليها ، وأظهر الرغبة عنها ، لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون من نسائه . انتهى .

وللزمخشري : في هذه الآية كلام طويل ، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب الاعتزال وغيره ، واخترت منه ما أنصه .

قال : كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي من إطلاع الناس عليه ، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب عند الله .

وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات ، لعظم أثرها في الدين ، ويجل ثوابها ، ولو لم يتحفظ منه ، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم ، إلا من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها .

ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم ، ويضيق صدره حديثهم ، والحياء يصدّه أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت : { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منك والله لا يستحيي من الحق } .

ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره ، وأمرهم أن ينتشروا ، لشق عليهم ، ولكان بعض المقالة .

فهذا من ذلك القبيل ، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته ، من امرأة أو غيرها ، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع .

وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً ، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا طلب إليه .

ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر .

فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة ، استهم الأنصار بكل شيء ، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر .

وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته ، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد ، بل كان مستجراً مصالح ؛ ناهيك بواحدة منها : أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أماً من أمّهات المؤمنين ، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله : { لكي لا يكون } الآية .

انتهى ما اخترناه من كلام الزمخشري .

وقوله : { أمسك عليك } فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد ، فهو كقوله :

هوّن عليك ودع عنك نهياً صيح في حجراته . . .

وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان ، ولا يجوز أن يكونا حرفين ، لامتناع فكر فيك ، وأعني بك ، بل هذا مما يكون فيه النفس ، أي فكر في نفسك ، وأعني بنفسك ، وقد تكلمنا على هذا في قوله : { وهزي إليك } { واضمم إليك جناحك } وقال الحوفي : { وتخفي في نفسك } : مستأنف ، { وتخشى } : معطوف على وتخفي .

وقال الزمخشري : واو الحال ، أي تقول لزيد : { أمسك عليك زوجك } ، مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها ، وتخفي خاشياً قاله الناس ، أو واو العطف ، كأنه قيل : وأن تجمع بين قولك : { أمسك } ، وإخفاء قالة ، وخشية الناس . انتهى .

ولا يكون { وتخفي } حالاً على إضمار مبتدأ ، أي وأنت تخفي ، لأنه مضارع مثبت ، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار ، وهو مع ذلك قليل نادر ، لا يبنى على مثله القواعد ؛ ومنه قولهم : قمت وأصك عينه ، أي وأنا أصك عينه .

{ والله أحق أن تخشاه } تقدّم إعراب نظيره في التوبة .

{ فلما قضى زيد منها وطراً } : أي حاجة ، قيل : وهو الجماع ، قاله ابن عباس .

وروي أبو عصمة : نوح ابن أبي مريم ، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت : ما كنت أمتنع منه ، غير أن الله منعني منه .

وقيل : إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها .

وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها .

وقال قتادة : الوطر هنا : الطلاق .

وقرأ الجمهور : { زوجناكها } ، بنون العظمة ؛ وجعفر بن محمد ، وابن الحنفية ، وأخواه الحسن والحسين ، وأبوهم علي : زوجتكها ، بتاء الضمير للمتكلم .

ونفى تعالى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن .

{ وكان أمر الله } : أي مقتضى أمر الله ، أو مضمن أمره .

قال ابن عطية : وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل .

وقال الزمخشري : { وكان أمر الله } الذي يريد أن يكونه ، { مفعولاً } : مكوناً لا محالة ، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب .

ويجوز أن يراد بأمر الله المكون ، لأنه مفعول يكن .

ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر ، واندرج الرسول فيهم ، إذ هو سيد المؤمنين ، نفى عنه الحرج بخصوصه ، وذلك على سبيل التكريم والتشريف ، ونفى الحرج عنه مرتين ، إحداهما بالاندراج في العموم ، والأخرى بالخصوص .